فَقَدَ الفلسطينيون صديقاً عزيزاً، وفقد السوريون أيضاً صديقاً عزيزاً، خسروا صوتاً يُدافع عنهم في ميادينَ ليس لهم فيها مدافع.. ماتت جو كوكس، سيدة البرلمان البريطاني التي طالما كانت تدافع عن الفلسطينيين وتعترف بحقهم في الحياة.. دفعت كوكس حياتها ثمناً لحياة الآخرين.. ماتت بثلاث رصاصات غادرة في جريمة اغتيال هي الأولى من نوعها في تاريخ بريطانيا.
جريمة الاغتيال التي تعرضت لها النائبة البريطانية عن حزب العمال جو كوكس، تمثل عملاً إرهابياً كامل الأوصاف ومكتمل الأركان، فهي جريمة ذات دوافع سياسية بحتة، نفذها رجل متطرف يتبنى أفكارا إقصائية عدمية تقوم على رفض التعايش مع الآخرين، وهو في ذلك لا يختلف مطلقاً عن الارهاب الذي يمارسه تنظيم داعش في سوريا، أو تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
العملية الإرهابية الجبانة التي راحت ضحيتها صديقة الشعب الفلسطيني جو كوكس، تؤكد أن الإرهاب لا علاقة له بالدين، وأن التطرف ليس له أي ارتباط بأي دين، وأن الجنوح نحو العنف لتحقيق الأهداف السياسية يمكن أن يكون موجوداً على اختلاف المكان والزمان والأديان، وهو ما ينفي فرضية أو ادعاء وجود ما يُسمى «الإرهاب الإسلامي» الذي يحاول دونالد ترامب إقناع العالم به، وتحاول عصابة الإرهاب الاسرائيلية في تل أبيب الترويج له في العالم.. فالارهاب موجود بين المسلمين وغيرهم، ولا علاقة للتعاليم الدينية به.
ورغم أن الجريمة الارهابية التي استهدفت النائبة جو كوكس تؤكد أن الإرهاب ليس حكراً على المسلمين (لاحظ أن اليابانيين أول من استخدم العمليات الانتحارية ضد خصومهم قبل الحرب العالمية)، وهذا التأكيد يمثل نتيجة بالغة الأهمية، إلا أن ثمة العديد من المحطات المهمة التي يجب التوقف عندها في قضية اغتيال النائبة كوكس:
أولاً: النائبة الراحلة كانت عضواً في مجموعة أصدقاء فلسطين، وكانت ناشطة في العديد من المنظمات المدافعة عن الفلسطينيين، وكانت واحدة من رافضي الاحتلال الاسرائيلي، والداعين الى تسوية معقولة وعادلة للصراع العربي الاسرائيلي تقوم على منح الفلسطينيين حقوقهم.
ثانياً: الراحلة كانت واحدة من أبرز مؤيدي ثورات الربيع العربي في بريطانيا، وتأييدها لهذه الثورات كان يقوم على مبدأ حق الشعوب في الحرية والتغيير والبحث عن حياة أفضل.
ثالثاً: النائبة كوكس كانت واحدة من أبرز المدافعين عن الشعب السوري وحقه في الحرية والتغيير والحياة الأفضل، بما في ذلك حقوق اللاجئين الذين يصلون الى أطراف أوروبا بحثاً عن الأمان والحياة الأفضل.
رابعاً: بحسب ما كشفت جريدة «التايمز»، فقد أمضت الراحلة أيامها الأخيرة في المشاركة بإعداد تقرير عن الانتهاكات التي يتعرض لها المسلمون في بريطانيا على أيدي المتطرفين، وهو التقرير الذي تقول الصحيفة إنه كان سيُظهر بأن الاعتداءات ضد المسلمين سجلت ارتفاعاً بنسبة 80٪ بسبب ازدياد أعداد المتطرفين.
ضمن هذه المعطيات تُشكل جريمة اغتيال النائبة كوكس مناسبة جديدة للدعوة من أجل تغيير طريقة النظر والتعاطي مع الارهاب، فالمنظمة التي ينتمي اليها القاتل الارهابي لا يمكن إلا أن يتم إدراجها ضمن المنظمات الارهابية، ويتوجب ملاحقتها وتجفيف منابع أفكارها ومنابرها الاعلامية وحظر أنشطتها لأنها تشكل خطراً على السلم الاجتماعي والأمن العام.
كما أن جريمة الاغتيال الارهابية لا يمكن التعاطي معها على أنها ناتجة عن الاستقطاب السياسي الحاد الذي يسبق التصويت على البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولا يمكن اعتبار أن تأييد النائبة البقاء في الاتحاد هو السبب الوحيد لمقتلها، إذ أن عشرات النواب غيرها يؤيدون البقاء في الاتحاد ولم تستهدفهم يد الارهاب، فلماذا تم اختيار كوكس دون غيرها؟!
تُغادر الراحلة العظيمة هذا العالم دون أن تخسر شيئاً، فيكفي أنها – كما قال الشاعر ذات مرة- ستكون فـــي السماء التي هي الأعلى، وهي موطن العظـــماء، بينما سنظل نحن في الأرض وهي الأسفل.. تُغادر كوكس تاركة أصدقاءها من العرب والمسلمين والفلسطينيين والسوريين وراءها ينثرون الورود على روحها الطاهرة، ويُشعلون الشموع في شوارع لندن، تفيضُ عيونهم دمعاً، وتتفطرُ قلوبهم حزناً.
المصدر : القدس العربي