أعاد الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان تطبيع علاقات بلاده مع “إسرائيل”، وشرَع في التحضير لنتيجة مماثلة تسير خُطاها بسرعة مع روسيا فيما التعاون مع إيران قائم ويتطوّر، فانقسمت بعض النُّخب العربية بمواقفها إزاء هذه التطورات إلى فريقَين، أحدهما مُدينٌ لـ “تفريط” أردوغان بحقوق العرب والمسلمين، والآخر مَدينٌ لـ “رعاية” أردوغان حقوق العرب والمسلمين، دون أن تلقى الاستدارة السياسية الأردوغانية في جوهرها وأسبابها وتداعياتها ما ينبغي من القراءة، في ظل واقع عربي أحوج ما يكون إلى الاستدارات عن وجهات الجحيم.
تركيا العدالة والتنمية التي عنونت استراتيجيتها الخارجية للألفية الثالثة بـ”صفر مشاكل”، استفاقت بعد عقد ونصفه على “صفر جيران”، فأعادت حساباتها وأوقفت عدّاد المواقف “العاطفية” لصالح براغماتيةٍ متجدّدة، بدأت مع “إسرائيل” ومع روسيا راعية “سوريا الأسد”، ولا يبدو أن هناك في المبدأ “القديم الجديد” أي فيتو على أية مصالحة في المستقبل.
الأزمة التي نشبت بين أنقرة وموسكو على خلفية إسقاط المقاتلة الروسية على الأرض التركية الحدودية مع سوريا لن تُعالج في العمق حتما، إلا ببذل الطرفين جهودهما لتقارب وجهات النظر حيال الحرب السورية أولا، وانطلاقا من قرار العاصمتين وحاجتهما إلى وقف استنزافهما في حروب مع “الإرهاب”، لم تتعافَ منها روسيا حتى اليوم فيما تدفع تركيا ضريبتها كل يوم.
في سوريا لم يعد الأسد كما كان، بل تحول إلى مصدّق على عبور حاملات روسيا وطائراتها إلى موانئ سوريا البحرية والجوية، وتثبيت حلفها الجيوستراتيجي الجديد مع “إسرائيل” مقابل بضعة طلعات جوية دورية للمقاتلات الروسية في سماء مواطني مناطق المعارضة، تخلّف مجازر في صفوف العائلات وتمنع تقدّم المسلحين. كذلك يفوّض خاتم الأسد الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التي تمرّ طريقها في حلب، بإدارة المعارك البرية باعتباره الأَولى والأقدر على التواصل مع مجموعاته القتالية اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، بمساعدة فريق المستشارين الإيرانيين.
في المقابل لم تعد المعارضة السورية أيضا معارضة بل معارضات متفرقة، فتخسر قرية لتربح أخرى وتكرّ هنا لتفرّ من هناك، فيما تنظيم داعش الملاحق دوليا ومحليا يتربّص بالجميع ضمن استراتيجية الاتلاف الشامل، ويبقى الخاسر الأكبر هو شعب سوريا الذي لم تقدم له صناديق الحلول السوداء الدولية والإقليمية والمحلية، إلا المزيد من القتل والتدمير والتهجير والتمزيق الديمغرافي على أسس طائفية وعرقية. فمن يتحدث اليوم بِاسم هذا الشعب ليحاول غدا أو بعد حين إنتاج تسوية اللاغالب ولا مغلوب على الطريقة اللبنانية التاريخية؟.
يستطيع التركي احتواء المعارضة السورية المقبولة دوليا كما يستطيع الروسي التفاوض باسم نظام الأسد، لكنهما ليسا اللاعبَين الوحيدَين في الشام، فما هو موقف إيران وأين ستشتري إذا باعت في سوريا، وما هي الكلمة الأمريكية الأخيرة في أية تسوية يمكن أن تُطبَخ لسوريا؟
من السذاجة اعتبار التوقيت الراهن مناسبا لطرح هذه الأسئلة على الأطراف الإقليمية والدولية المنشغلة بأزمات مركّبة ومتراكمة، يصعب حلها بالمفرّق ولم تنضج بعد ظروف التسوية الكبرى، لكن من الجنون حتما ألا يطرح السوريون، كل السوريين، على أنفسهم هذه الأسئلة حول تسوية ما لضياع بلدهم وهويتهم، والاستفادة من أي تقارب يجري من حولهم.
بعد الحرب اللبنانية الأهلية عام 1975 اختلطت الدماء بالدماء، ثم تصالح أبناء “الشهداء” وكرّم كل قاتل قتيلَه، وعفا الأبناء عمّا مضى، فأصبح سمير جعجع بطلا عند السُنة، وميشال عون بطلا عند الشيعة، ووليد جنبلاط رمز الحكمة عن الموارنة.. نتائج كانت مستحيلة في الألفية الماضية، لكن السياسة إذا برعت تجعل المستحيل واقعا، ومن المستحيل استمرار الواقع السوري على ما هو عليه.
المصدر : عربي 21