صدمةٌ كبيرة أصابت من راهنوا على سقوط أردوغان بفعل محاولة انقلاب 15 يوليو، دولاً وأجهزة ونخباً وإعلاميين. فنموذج تركيا في الحكم والإنجاز كان دائماً موضع مقارنةٍ مع دول أخرى في المنطقة، تفتقد الزعامة الحقيقية، وتعيد إنتاج التخلف من عقود. لذلك، فإن أهم ما في الانقلاب الفاشل على أردوغان هو ما سيترتب عليه، سواء داخل تركيا أو في المنطقة. أردوغان بعد الانقلاب ليس أردوغان ما قبله، وكذلك مواقف دول المنطقة تجاه تركيا وسياساتها الإقليمية.
أياً كان من يقف وراء الانقلاب الفاشل، لا بد أنه كان يدري ما لهذه الخطوة من أهمية وخطورة، فنجاح المحاولة كان سيعني تتويجاً لردّة إقليميةٍ نحو الدكتاتورية وسيادة العسكريتارية. وللأسف، لم يدرك هؤلاء أن في ذلك إهانة واستنزافا للشعوب وللجيوش معاً. صحيح أن فشل الانقلاب أكد انقسام الجيش التركي، وفي ذلك بالطبع خطورةٌ كارثية، إلا أن انحياز الشعب والمعارضة السياسية إلى صف السلطة المدنية المنتخبة حسم الأمر، فكان هذا هو صمام الأمان الحقيقي.
جيوش هتلر وموسوليني كانت متماسكة، وجيشا معمر القذافي وبشار الأسد توحّدا خلفهما، وكذلك جيوش صدام وبينوشيه ورضا بهلوي وبعده الخميني. وقبل كل هذه الأمثلة، ليس أدلّ من الجيش الإسرائيلي الذي يحتل وينتهك ويحاصر ويقصف. فقيمة الوحدة والتماسك ليست في ذاتها، وإنما في كيفية توظيفها، وفي أي اتجاه ولأي غرض.
تلك هي الإشارة المستقبلية الأخطر بعد فشل الانقلاب. الإرادة الشعبية هي أساس الحكم، أياً كانت مرجعيته، فهي الشرط الضروري الذي لا بد منه. أخذاً في الاعتبار أنها لا تكفي وحدها، فالحق والشرعية والإرادة الشعبية وقرار الصندوق، من دون قوة، تصير بلا حولٍ ولا قوة. ولولا انحياز قياداتٍ عليا في الجيش لأردوغان، سواء موالاة لشخصه، أو إيماناً بالديمقراطية، ونأيا عن مستنقع السياسة، لما وجدت إرادة الشعب إلى الواقع سبيلاً.
وصل هذا الدرس البليغ بمفرداته ومعانيه إلى كل من تابع المحاولة الانقلابية ومراحل فشلها لحظةً بلحظة. وسينعكس على تعاطي حكومات المنطقة مع أردوغان، وسيضطر الإعلام العربي إلى التخلي عن الصورة الذهنية لتركيا، دولة تسلطية تدخّلية رجعية، بعد أن أثبت الأتراك أنها صورة زائفة مُختلقة.
على الدول التي كانت تراهن على سقوط أردوغان أن تعيد حساباتها. فالرجل الذي كان يعاني أزماتٍ داخليةً وانتقادات قوية لسياساته، جعلت منه محاولة الانقلاب الفاشلة ملكاً متوجاً على عرش الديمقراطية التركية. وكما من المتوقع أن يصبح أردوغان أكثر قوةً، وربما عنفاً، في التعامل مع الأطراف المناوئة له في الداخل، ربما يفضي اجتيازه اختبار الانقلاب إلى تغيير ما في السياسة الخارجية التركية، سواء تجاه الشرق الأوسط أو خارجه. خصوصاً فيما يتعلق بالدول التي قد ترتاب أنقرة في ضلوعها بالانقلاب.
فشل انقلاب العسكر في تركيا، بعث جديد للربيع العربي. فسقوط النموذج التركي كان سيمنح النظم التي تحتضر ومرتزقتها مزيداً من الوقت للبقاء والشماتة في دعاة الحرية والكرامة وإعلاء كلمة الشعوب. وبمرور التجربة التركية من ذلك الاختبار العسير، فإنها ستعود نموذجاً ملهماً لاحترام المواطن الذي هو أصل الدولة وركنها الأساس. وإن كانت ديمقراطية تركيا قائمةً وملهمة من قبل، فإن جديدها بعد الانقلاب أشدّ تأثيراً وأوسع نطاقاً. إذ لن يقتصر الإلهام على الشعوب، وسيتحول موقف القوى السياسية التركية، والسواد الأعظم من قيادات وأفراد الجيش، صورة ستظل ماثلة أمام أعين نظرائهم من الساسة والعسكريين، سواء في دول الشرق الأوسط، أو مناطق أخرى، خصوصاً تلك التي أصابها وباء الانقلابات قديماً أو حديثاً.
المصدر : العربي الجديد