بعد فشل عملية الانقلاب العسكري في تركيا يثور التساؤل عمّا إذا كان ما جرى ليل الجمعة-السبت قد قوّى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان أم أضعفه؟ والصحيح أنّ محاولة الإجابة عن سؤال معقّد واستشرافي كهذا تقتضي الانتباه إلى عدد من النقاط الأساسية التي من شأنها، على الأرجح، تنظيم النقاش حول انقلاب تركيا الأخير، وهي:
أولاً، أن المتبرمين من سلطوية وديكتاتورية الرئيس أردوغان يجزمون أنه سوف يستغل الانقلاب لتعزيز قبضته على السلطة وتصفية خصومه في الجيش والقضاء والإعلام والحياة العامة، وفي حال لم تقتصر هذه التصفية على نفوذ فتح الله غولن، المنافس الأكبر لأردوغان، وامتدت التصفية إلى الأكراد وغيرهم، فإن هذا سيعمّق المأزق الداخلي التركي، ويجعل من الصعوبة على تركيا، التي نجت من الانقلاب، أنْ تبتعد عن عين العاصفة وتغادر عوامل الاضطراب الكامنة والظاهرة في تركيبة النظام، الذي يديره أردوغان بأسلوب شخصي يقوم على النَزَقية وتصفية الحسابات، وليس على العقلانية السياسية وتوسيع مروحة التوافقات الوطنية.
ثانياً، سيكون أردوغان أقوى بالفعل لو أنه يتعلّم من حادثة الانقلاب ضرورة تقوية مؤسسة الجيش وتعزيز استقلاليتها وحياديتها بوصفها مؤسسة وطنية تظلل جميع الأتراك. أما إذا اتجه أردوغان إلى التركيز على تصفية خصومه و»تنظيف الجيش» بحسب تعبيره، فإن هذا سيكون طريقاً لكسر احترافية الجيش واستقلاليته؛ لأن الإمعان في هذه العملية سيعني تقديم الولاء على الكفاءة، وهو مدخل لتسييس المؤسسة العسكرية، واعتماد معايير الارتقاء استناداً إلى «الزبونية»، وهي عملية معاكسة لما يُقال إنّ ما حدث أخيراً يعني انتصاراً للمدني على العسكري، وتحجيماً لأي دور سياسي للجيش. وإذا ما تمّ هذا فإنه يفيد بأن ثمة تحولاً في المقولات والشعارات التي حكمت لعقود المؤسسة العسكرية التركية العريقة؛ بحيث يصبح الحديث عن الجيش كـ»حامٍ للسلطة والنظام والحزب الحاكم» وليس باعتباره «حامياً للعلمانية والديموقراطية». أيْ، أن أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» اللذين يُحسب لهما إعادة الجيش إلى ثكناته وتعزيز الاستقرار الديموقراطي والخيار الانتخابي، منذ عقدين على الأقل، سيخسران هذا الإنجاز التاريخي من خلال ضرب احترافية الجيش التركي القائمة أولاً على المعايير والتقاليد الأطلسية المرموقة، والقائمة أيضاً على الاستقلالية والتنوّع. ففي حال ضُرب التنوّع والاحترافية بحجة «تنظيف الجيش من المتواطئين في الانقلاب»، فإن انكفاء هذه الاحترافية تساوي زيادة مكامن الصراعات لا تفكيكها، وبالتالي، سقوطاً لمقولة انتصار المدني على العسكري أو انتصار الديموقراطية.
ثالثاً، سيكون أردوغان أقوى في حال نجح في امتحان توسيع دائرة التوافقات الوطنية وهمّش نزعاته السلطانية، وقدَّر أنّ من حماه من الانقلاب و»الكيان الموازي» هو الشعب التركي الذي خرج إلى الشوارع، والنخبة السياسية، ومنها المعارضة الكردية، الذين تناسوا خلافاتهم مع أردوغان ولم يصدر عنهم أي تأييد للانقلاب، والمؤسسة العسكرية نفسها، وقوى الأمن والشرطة التي أعادت السيطرة على المؤسسات بسرعة وحررت رئيس هيئة الأركان. وبالفعل فقد كان للمؤسسة الأمنية والشرطية دور مميز في اعتقال قادة كبار في التمرد، وهذا مضنة أنْ يتصاعد دور المؤسسة الأمنية في تركيا (كسلطة موالية وليس كمؤسسة وطنية تستهدف صون الأمن القومي للدولة) على المؤسسة العسكرية الاحترافية، وعلى حساب الحريات المدنية واستقلالية القضاء وحرية الإعلام والمشاركة العامة، بما يعني توظيف ما حدث بشكل ارتدادي لتعزيز قبضة السلطة الحاكمة وتوسيع المراقبات والملاحقات.
تركيا انتصرت للحكومة الشرعية لكنها على مفترق طرق: صعود نفوذ السلطان والحزبية الضيقة أم صعود الاحترافية المؤسسية وترميم النموذج الديموقراطي.
المصدر : الحياة