صار واضحاً أن حجم الانقلاب الذي كان يفترض أن يطيح حكم أرودغان ليس صغيراً جداً، بحسب ما أوحت تصريحات قادة حزب العدالة ليلة الانقلاب. الاعتقالات التي طالت الآلاف تقول شيئاً مغايراً، وأغلب الظن أن التصريحات الأولى المقللة من شأنه كانت تتوخى رفع معنويات المناهضين له، مع علم أردوغان والحلقة الضيقة من المسؤولين أنه لا يقتصر على زمرة مغامرة أو معزولة، أو محلية فحسب.
أيضاً، لا بد من إضافة ذلك النداء الذي يطالب الأتراك بالبقاء في الساحات لمدة أسبوع، إذ يخالف هذا النداء التهوين مما حدث، وإذا رُدّ سببه إلى التغطية على عمليات اعتقال ضخمة فذلك يضيف دلالة أخرى إلى حجم القوى المنخرطة في الانقلاب، أو تلك المتربصة في انتظار حدث مشابه. تُستثنى منها، ربما مؤقتاً، القوى السياسية المعروفة التي أعلنت انحيازها للديمقراطية على رغم خلافاتها العميقة، ولا يُستبعد أن يكون موقفها قد فاجأ بشدة الانقلابيين وأصدقائهم والمتعاطفين معهم.
قد يصح بعض الاتهامات التي تقول إن أردوغان يستغل فشل الانقلاب لتصفية خصومه جميعاً، لكن هذا لا يكفي ويذهب بدوره إلى التقليل من شأن الانقلاب، مع أن شخصية كبرى واحدة فقط من الجيش تبين أنها كانت موالية لأردوغان وأبلغته بما يُدبّر، في الساعة الأخيرة، بينما توزع باقي قادة الفيالق الكبار بين مؤيد للانقلاب وصامت عنه. وأن تكون نسبة 30% نظرياً منخرطة في الانقلاب فهي نسبة كبيرة جداً من الجيش، بخاصة مع افتقارها إلى الدعم من أية جهة سياسية تقليدية، على غرار انقلاب الجيش على الإسلاميين في مناسبات سابقة.
من ضمن هذه اللوحة، يبدو أن مؤيدي الانقلاب في تركيا، الذين لم يظهر منهم أحد إلى العلن بعد فشله، هم أقل بكثير من مؤيديه في الخارج. وهنا لا يليق توجيه الأنظار إلى مصر السيسي أو إلى مؤيدي بشار الأسد، فالأمر ليس مبتذلاً إلى هذا الحد، ولا حتى توجيه الأنظار إلى الابتهاج الذي ساد قليلاً في أوساط الكرملين لأنه يبقى قليل القيمة ما لم يكن مدعوماً بالرضا الغربي.
دعم مقتضب للديمقراطية مع إسهاب في التخوف من معاقبة الانقلابيين، هذا هو رد الفعل الأمريكي الذي تأخر صدوره أصلاً، والذي اقتصر بداية على طلب السلام وعدم سفك الدماء، وهو طلب ربما كان موجهاً للانقلابيين في المقام الأول على اعتبار أنهم كانوا على وشك النجاح. بل حتى بعد القضاء على بؤر الانقلاب نهائياً، ظهر جون كيري كمن يتحسر وتحدث عن إعداد فاشل، بدل اعتبار ذلك الفشل حجة على الانقلابيين وعلى توحد غالبية الأتراك على التداول الديمقراطي السلمي للسلطة.
بعد الموقف الأميركي أتت تصريحات غربية متعددة لتصب في المنحى ذاته، الأمر الذي يعني شيئاً واحداً وهو أن الانقلاب مستمر خارجياً، وإن فشل داخلياً. ولعل هذا هو العنصر الأهم، إذ المطلوب دولياً على نطاق واسع تحجيم الدور التركي الصاعد، ما تتفق عليه عدة قوى دولية وإقليمية، ولا يخفى أن إدارة أوباما في مقدمها.
سيكون من الخفة والاستسهال عزو استياء الغرب من أردوغان إلى إسلاميته أو إسلامية حزبه، أو فقط إلى ما يُشاع عن تسهيلات قدمتها الحكومة التركية لداعش. فالتنظيم الأخير حظي برعاية، أو باستثمار فيه، من مختلف القوى الدولية والإقليمية، بما فيها طهران وموسكو، وحتى إدارة أوباما جُرّت مكرهة إلى قتاله وإنشاء تحالف دولي ضده لم تثبت فعاليته سريعاً. أما تواتر الحديث عن السلطان أردوغان وحلم الخلافة فهو أكثر ابتذالاً، وإن كان أردوغان نفسه قد أعطى ذرائع لتداوله بسبب خطابه الإسلامي الشعبوي. ولا ننسى بالطبع أن توجه فتح الله غولن وأتباعه إسلامي أيضاً، وينبغي ألا يقل خطورة من وجهة النظر الغربية، على اعتبار الغرب أكثر عقلانية من علمانيين عرب معادين لأردوغان ومغرمين في الوقت نفسه بولاية الفقيه والبسطار العسكري.
للتذكير، الحديث يدور عن بلد يحتل اقتصاده المرتبة الرابعة عشر اقتصادياً، وجيشه هو الثاني من حيث العدد في حلف الناتو، الأمر الذي لا يغيب عن بال مسؤولي حزب العدالة وهم يخاطبون ضمناً إدارة أوباما بالقول إن بلادهم ليست من “جمهوريات الموز” في أميركا اللاتينية. مكانة تركيا هذه ليست حكراً على أردوغان أو حزبه، فهي مكتسب يضاهي ويدعم بقوة الديمقراطية التي أبدت الغالبية استعدادها للدفاع عنها، ومن المرجح أنها مكانة لن يفرّط بها أي حزب آخر يتولى السلطة في الانتخابات، على الضد من حكم عسكري لا يتمتع بشعبية داخلية فيضطر إلى توسل الدعم الخارجي على حساب تلك المكانة.
لقد عمدت إدارة أوباما في السنوات الخمس الأخيرة إلى فعل كل ما يمكنه تقويض النفوذ التركي، وصولاً إلى عدم دعم الجيش التركي معنوياً بعد إسقاط الطائرة الروسية واضطرار أردوغان في ما بعد إلى الاعتذار عن ذلك. وكما هو معلوم، كان الخط الأحمر الأهم هو منع تمدد النفوذ التركي إلى سوريا، بخلاف الصمت التام عن النفوذ الإيراني وميليشياته التي تحارب في صف النظام، وأيضاً الدعم الأمريكي المستجد للفرع السوري من حزب العمال الكردستاني. بمعنى رعاية إدارة أوباما تقاسم النفوذ في سوريا، مع استثناء تركيا بصفتها المرشح القوي لملأ جزء من الفراغ السوري.
واقع الحال أننا إزاء ثلاث قوى إقليمية طامحة، إسرائيل وإيران وتركيا، لا جدال في موقع الأولى منهم أمريكياً وغربياً، الأهم هو منح الأفضلية لإيران كي تمنع نفوذ أية قوة إقليمية أخرى في المنطقة، والقوة المرشحة أكثر من غيرها تركيا، سواء أكانت بقيادة حزب العدالة أو حزب تركي آخر. الاعتبار الأخير ينفي أيضاً صبغة التنافس السني على الزعامة كما يُروّج لها، فالشقاق التركي مع بعض الحكومات الخليجية مرتبط بخرائط النفوذ الكبرى في المنطقة وإعادة رسمها، لا بمن يتبوأ مكانة مقابلة لملالي إيران.
يجوز القول بأن الحجم الذي وصلته تركيا في هذا القرن يدفع إلى الخوف منها وإلى الخوف عليها، وهذا مشروع إقليمياً ودولياً. لكن مشكلة غالبية القوى الإقليمية، باستثناء إسرائيل وإيران، أنها ليست في موقع الفاعل الاستراتيجي، ولا هي قادرة على منافسة الدور التركي أو إقامة شراكة معه. دولياً، يبدو أن الخوف على تركيا يتراجع كثيراً أمام التخوف من صعودها، وقد يكون من سخرية المصادفات أن يأتي هذا تماماً بعد قرن من إعلان وفاة “الرجل المريض”.
المصدر : المدن