مقالات

غازي دحمان – عن خرافة تحكّم موسكو بمصير الأسد

مثل كل الخرافات التي بنتها روسيا، في عهد القيصر فلاديمير بوتين، عن حجم تأثيرها ومدى فعاليتها، لا تخرج القضية السورية عن محيط عالم الوهم المؤسس على دعاية سياسية تنطوي على بعض أشباه حقائق وتكمل بقية بنيتها بسردية رغبوية، لا تختلف عن سرديات الخرافة سوى ان الأخيرة تدّعي أنها جرت في عالم مضى في حين أن سردية موسكو تحكي عن عالم سيأتي تحدّد روسيا ليس ملامحه وحسب بل شخوصه وميادينه وطبيعة النقلات التي ستحصل على رقعته.

نحن نستطيع إزاحة بشار الأسد، لكننا يستحيل ان نفكر في إجراء هذا الأمر في الوقت الحاضر، وقد يستغرق ذلك سنوات. والسؤال: لمن هذه الرسالة؟ بالنسبة الى الأطراف الخصوم لروسيا يتوجب عليهم أن يأخذوا الشطر الأول ويبنوا سياساتهم تجاه روسيا فوق هذا المدماك، وبناءً عليه يجري تأسيس مناخ تفاوضي بما فيه من أوراق تفاوض للأخذ والعطاء مع موسكو وتحديد العناصر التي يجب التنازل عنها مقابل هذا الطرح ونوع المكافأة التي ستحصل عليها موسكو بالإضافة إلى إعادة التفكير بصياغة انماط الصراع في سورية وشكل التحالفات. اما الشطر الثاني من التصريح فلا يحمل أهمية كبرى وهو ليس أكثر من لزوميات التفاوض، او حتى مجرد لازمة تقال في مثل هذه المناسبات.

بالنسبة الى حلفاء نظام الأسد، فإن الكلام الروسي واضح ولا لبس فيه: لن نتخلى عن بشار الأسد لسنوات مقبلة، وعلى ذلك فإن عليهم الآن أن يعيدوا ترتيباتهم اللوجستية والنفسية حيث لم يعودوا محكومين بأفق زمني قصير يثبّتون خلاله أوضاعهم وإلا فإن السياق سوف يتغير والأمور ستأخذ منحنيات مختلفة. إذاً كل الجهود يجب ان تكرّس من اجل تعطيل عملية السلام الجارية والاستعداد للحرب الطويلة تحت مظلّة الحماية الروسية، الشطر الأول لن يعني كثيراً هنا، ليس أكثر من محاولة للتغطية على الصدمة التي يتضمنها الجزء الآخر من التصريح.

يقع هذا النمط من التصريحات السياسية بين التذاكي السياسي الذي يحاول جر الأطراف الأخرى إلى فخاخ تفاوض غير ملزم، وبين الذهاب بعيون مفتوحة إلى الدخول في مأزق الحرب السورية التي طالما تحاول روسيا إدارتها عن بعد وتتجنب الغرق في مستنقعها، وبدل أن تجني روسيا ثمار هذا التذاكي من طرفي الأزمة، وفق تقديرات خبرائها، فإنها تضع نفسها بين مطرقة الخصوم الذين سيتعاملون بجدية مع كلامها بأنها تستطيع تنحية بشار الأسد وأن كل مجزرة سيرتكبها بعد هذا التاريخ وكل خراب سيحصل في سورية ستكون شريكة فيه لأنها كانت تستطيع وقفه ولم تفعل، وبين سندان حلفاء النظام الذين سيطالبونها بالوفاء والتزامها بضمان بقاء الأسد لسنوات وسيحثونها على تقديم ترجمة فعلية على الأرض، ذلك ان استمراره يتطلب مساعدته في السيطرة على كل سورية وفقما يرغب الأسد ويريد.

لكن دع عنك ما تسوّقه روسيا عن نفسها وهو يدخل في تقنيات بناء السردية أكثر من كونه توصيفاً حقيقياً لحجم التأثير والفعالية. هل تملك موسكو بالفعل مفاتيح التحكم بماكينة الحرب السورية وتستطيع تالياً وقف آليات تشغيلها والسيطرة على مفاصلها؟ الوقائع تقول إن رقعة الشطرنج السورية أعقد من قدرة لاعب أو إثنين على التحكم بنقلاتها، وإن أكثر اللاعبين تأثيراً لا يستطيع تحريك أكثر من عدد محدود من الأحجار، وأن اللعبة لو كانت بالسهولة التي تدعيها روسيا لانتهت قبل حضورها وإنخراطها بمجرياتها، ثم ان التأثير والفعالية الروسية تنحصران ضمن قطاعات محدّدة ولا تتجاوزانها، تماماً مثل بقية اللاعبين الذين لديهم قوة وفعالية في قطاع معين ويفتقدون أي تأثير في قطاعات ومناطق أخرى.

الكلام الروسي يثبت وجود إشكالية لم يلتقطها الخبراء الروس جيداً وأوهموا إدارتهم بها، وهي حجم الفوضى التي تنطوي عليها الحرب السورية، وقد وصل إلى حد أن من صنع خريطة الفوضى في سورية لم يعد يعرف مسالك الطرق فيها، حتى بشار الأسد نفسه الذي يتحدث الروس عن إزاحته لا يملك هو ورجاله السيطرة المطلقة على العاصمة دمشق، حيث وضمن مساحة لا تتعدى عدداً محدوداً من الكيلومترات بجانب قصره تتوزع السيطرة بين أفرع مخابراتية سورية عدة، وميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية وأحزاب ومتطوعين من البلاد العربية، وكل منطقة لديها إدارة وخطط وأوامر منفصلة عن الأخرى، وفوق هذا وذاك، لديها أهداف وأولويات ليست واحدة، يجمعها فقط عدو مشترك، لكنها تختلف في كل شيء، وهي ليست ملتزمة بالحل السياسي في سورية، كما انها استطاعت وبفضل الفترة الزمنية التي قضتها في مناطق تواجدها ونفوذها تشكيل بيئات حاضنة وموالية لها وتجذّرت هي نفسها في الصراع وغدت جزءاً من نسيجه.

هل تستند روسيا إلى واقعة مفاجأة بشار الأسد بدخول وزير دفاعها سيرغي شويغو قصره من دون علمه؟ عليهأ ان تتذكر ان قاسم سليماني دخل في التاريخ نفسه إلى حلب وخرج منها من دون معرفة الأسد أيضاً، كما ان الأسد نفسه لا يعلم شيئاً عن القادة الأفغان والباكستانيين الذين يحكمون قطاعات واسعة من دمشق، فذلك ليس مؤشراً كافياً عن مدى تأثير الروس وسطوتهم في سورية.

الواقع أن روسيا ربما تستطيع بعد سنوات من الآن ان يكون لها حجم التأثير والفعالية الذي تدّعيه، لكن شرط أن تكثف انخراطها أكبر بكثير مما عليه الآن، وبعد ان تعمل على تفكيك خريطة الفوضى الهائلة في الميدان السوري، وبعد أن تتكبد عناء وجهداً لا يستطيع أحد تقديرهما، أما في هذه اللحظة فإن خبراءها لا يستطيعون التحكّم بأكثر من بوابات مطار حميميم.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى