لم تغب عن الأذهان سوريالية قرار قمة نواكشوط عقد القمة العربية المقبلة في اليمن، على رغم إجرائيته وحتى رمزيته التي تنطوي على تمنٍّ بأن تنتهي الحرب في أقرب الآجال. ونظراً الى الوتيرة المتسارعة للصراعات في الدول الأربع المأزومة، قد تكون الجامعة العربية مدعوة الى التفكير في أن قمة نواكشوط ربما تكون الأخيرة التي تنعقد ولو صوَرياً بـ «22 دولة»، وهي عملياً 21 بسبب المقعد الخالي لسورية. فالعدد مرشحٌ لأن يتزايد من دون أن تكون للجامعة ودولها إرادةٌ في التوسّع، على غرار ما حصل للسوق الأوروبية المشتركة التي حوّلت نفسها الى اتحاد أوروبي لتستوعب الدول الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989.
والفارق أن السوق في أوروبا الغربية كانت واعية ومواكبة، بل مساهمة في ذلك الانهيار ومستعدّة للتعامل مع تداعياته وفقاً لسياسات مرسومة ومدروسة مسبقاً، أما الجامعة فبدت وفق بيانات القمة الأخيرة كأنها بالكاد لديها علمٌ وخبرٌ بكوارث ما هو جارٍ في سورية والعراق واليمن وليبيا و… و… من تفكيك للدولة وتمزيق للمجتمعات. لا يعني ذلك أن الجامعة أو بالأحرى دولها تجهل الأخطار، لكنها ترضخ لحقيقة أن قوى أخرى دولية أو إقليمية تتصرف الآن بمصير هذه الدول وشعوبها، وستتصرّف بدول وشعوب أخرى مرشّحة للاضطراب، وما على الجامعة ودولها سوى انتظار المحصّلة النهائية التي قد تفرّخ ما لا يقلّ عن عشر الى اثنتي عشرة «دولة» جديدة، إذا كان في الإمكان تسميتها دولاً.
الفارق أيضاً، أن مدير وكالة الاستخبارات الأميركية يستطيع أن يضع في التداول فكرة أن «عودة سورية موحّدة» لم تعد مؤكّدة، ومعها أيضاً فكرة أن سورية التالية، المجزّأة، لم تتضح معالمها النهائية بعد، ويعوّل اللاعبون الخارجيون على الحرب المستمرّة لتساعدهم في رسم الخرائط الجديدة. في المقابل، لم يُسجّل أي رد فعل عربي على جون برينان، ولا حتى من النظام السوري الذي يحرص رئيسه على الظهور كرئيس للبلاد وعلى الإكثار من الحديث عن «السيادة» و «استعادة السيطرة». ولا شك في أن تصريحات مدير الـ «سي آي إيه» تفيد بأن واشنطن عليمة بمشاريع التقسيم ومنفتحة عليها، وبما أن الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط تراجعت عندها، فإنها تتخذ من التقسيم وسيلة لتوزيع الأدوار ومناطق النفوذ. صحيح أن موسكو لم تنسّق تدخلها مع واشنطن، إلا أنها مدركة أن مستقبل دورها في سورية يتطلّب تعاوناً وقبولاً أميركيين، ما ينطبق أيضاً على دورَي إسرائيل وإيران.
وعلى رغم أن «التقسيم» لا يرد في الخطاب الروسي، إلا أن «وحدة سورية» لا تظهر فيه إلا نادراً، وهو ما يتّسم به الخطابان الإسرائيلي والإيراني. كانت تركيا الأكثر وضوحاً في التشديد على سورية الموحّدة، لخشيتها من انعكاس التقسيم سلباً عليها، لكنها أصبحت أخيراً خارج الصفقات، فسيكون لها دورٌ ولن يكون لها نفوذ.
هناك أربع قوى متكالبة حالياً على توزّع النفوذ وتقاسمه في سورية، وبصيغٍ متقاطعة ومتنافرة تحاول إدخال العراق ولبنان في الحسابات، كما تحفّ بها إشكالات سياسية مرتبطة بمستقبل العلاقات بين هذه الدول تحديداً (الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وإيران) مقدار ارتباطها بالهدف المنشود من أي تقسيم. في 1916، تفاهمت بريطانيا وفرنسا على التحكّم بصيرورة المنطقة العربية بعد انهيار الدولة العثمانية، وتوصّلتا الى اتفاق سايكس – بيكو وخرائطه التي اهتمّت أولاً بتقليص تركيا وعدم تمكينها لاحقاً من إحياء إمبراطوريتها، وثانياً بتبديد التوجّه الى إقامة دولة عربية موحّدة من الكيانات الخارجة من السيطرة العثمانية، لذا رُسمت الدول على الورق وتبيّن بعد مئة عام أنها لم تستطع أن تصبح في الواقع دولاً بما تعنيه الكلمة.
وفي 2016، يتبيّن أن هاجس «التحكّم» لا يزال سائداً منتقلاً هذه المرّة الى روسيا والولايات المتحدة، لكنه احتفظ بالظروف ذاتها (غياب العرب) وبالدوافع ذاتها كما يتبدّى من تحجيم تركيا وتكسير أجنحتها، لا بسبب إسلاميتها المتصاعدة أو «سلطانية» أردوغان فحسب، بل كذلك بسبب تنامي تنسيقها مع دول عربية في شأن أزمتَي سورية والعراق.
ولعل ما افتقده مارك سايكس وفرنسوا جورج بيكو عام 1916 يتوافر الآن لجون كيري وسيرغي لافروف، إذ يمكنهما الاستناد في عملية «التحكّم» تلك الى دولتين مصطنعتين أيضاً وتدينان بوجودهما لإرادة خارجية. الأولى موجودة وهي إسرائيل التي شكّل «وعد بلفور» (02/11/1917) وثيقة ولادتها، والأخرى دولة كردية في صدد التشكّل برغبة أميركية – روسية يتم تسويغها بأن الجهة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها في محاربة إرهاب «داعش» هي الأكراد. وكما أقيمت إسرائيل كرمز لبقاء الاستعمار وزعزعت استقرار الدول العربية حديثة النشأة والاستقلال، فإن مباركة إنشاء دولة أو حتى مجرد أقاليم كردية متّصلة باتت في مثابة إعلان مسبق بأن جغرافية أربع دول (تركيا وإيران وسورية والعراق) ستتغيّر. خلافاً لحال إسرائيل التي لم توجد في المنطقة، ينبغي الإقرار بأن ثمة ظلماً وقع على الأكراد الموجودين تاريخياً في المنطقة، لكن واجب إنصافهم طرح تساؤلات مشروعَة، منها: هل يمكن تصحيح الخطأ التاريخي بتفكيك دول قائمة، وهل تستقيم إزالة ظلم بإنتاج مظالم جديدة، وما انعكاسات ذلك مستقبلاً؟
تتظاهر الدول الأربع الساعية الى تقسيم سورية والعراق، وربما الى العبث بالكيان اللبناني، بأنها مجبرة ومضطرّة. فما الحلّ إذا كان السوريون، وكذلك العراقيون، مصممين على التقاتل. وما العمل إذا كانوا استعادوا موروث الضغائن المذهبية لإضفاء مشروعية على تناحرهم. وما الخيار إذا كانت صراعاتهم تمخّضت عن مولود إرهابي شرير اسمه «داعش» أو «القاعدة». وما السبيل الى معالجة نظام استبدادي لا يهمه تاريخه ولا ماذا أنجز لوطنه وشعبه بل كم قتل ودمّر؟.. الدول التي تطرح هذه التساؤلات لا تسأل لماذا حصلت المحنة السورية، لأنها ساهمت في صنعها وقادتها الى ما أصبحت تسمّيه اليوم واقعاً تقسيمياً، وهي نفسها التي منعت الحل العسكري كلّما شكّلت المعارضة تهديداً للنظام، وهي التي تمنع الحل السياسي بعدما جاء الروس لمساندة النظام والإيرانيين في أعمال القتل وتدمير المستشفيات والمدارس.
تذرّعت الدول الأربع جميعاً بالإرهاب منذ ما قبل ظهور «داعش»، وامتطته للعب أدوارها وخوض حروبها القذرة. لروسيا حربها الخاصة في سورية، كذلك لإيران وإسرائيل، ولأميركا حربها أيضاً. حروب من أجل أجنداتها ومصالحها، من أجل مواقعها في الإقليم، وبالطبع حروب أيضاً في ما بينها. كانت أميركا تقول أن نظام بشار الأسد هو مَن اجتذب الإرهاب وصنّعه، لكنها اختزلت المسألة السورية ومعالجتها بالخيار بين وحشيّتَين: «داعش» ونظام الأسد، ولا مفاضلة بين الاثنين. وكانت روسيا تقول أن ما يهمها هو الحفاظ على الدولة والجيش، وإذا بها تجعل من سورية حقل تدريب لطياريها وتجارب لأسلحتها الجديدة وموطئ قدم دائمة على المتوسّط وسوقاً ابتزازية للعرب في سورية وللأوروبيين في أوكرانيا. أما إيران فانبرت منذ اللحظة الأولى لمشاريع التغيير الديموغرافي وتعميم نفوذها المذهبي في الإقليم. وأما إسرائيل، فتتعامل مع سورية على أنها جائزتها الكبرى، المجانية وغير المتوقعة، وتبحث من خلال موقعها في الأزمة عن مشروعية لاحتلالاتها وعن النهاية التي رسمتها لقضية الشعب الفلسطيني.
إذا كان التقسيم مدار البحث الجدّي على أكثر من مستوى، فلا أحد يتوقّع من المعنيين به أن يكشف أوراقه، والأهم أن أحداً منهم لا يستطيع القول أنه، من خلال التقسيم، يبحث عن حل سياسي للأزمة، أو يسعى الى إنهاء العمليات القتالية. فالتقسيم صفقة نتنة لا تنضج إلا باستمرار الصراع وانسداد الآفاق أمام كل الحلول، ولا أثر فيها للأخلاقيات والمبادئ. وفي ضوء ذلك، يمكن تخيّل أسباب التقارب والتجاذب، العناق والتنافر، والتصالح والتخاصم والتخادع، التي تنتاب لقاءات كيري – لافروف. إذ يوحيان بأنهما مهمومان بتأمين هدنة ثابتة أو بالبحث عن ممرات للإغاثة أو أفضل صيغة لحل سياسي… هل هذا ما يشغلهما فعلاً أم الخلافات على الحصص؟.
المصدر : الحياة