تركت التحركات الأمريكية الأخيرة، والنشاط العسكري المتنامي بعيدا عن ضجيج الإعلام في عدد من الساحات والملفات الإقليمية، إشارات وتساؤلات حول مدى جدية الإدارة الأمريكية في تفعيل الانخراط العسكري والسياسي في عدد من الملفات، في ظل قرب انتهاء فترة ولاية الرئيس الأمريكي باراك اوباما في نوفمبر المقبل.
نجاح ما يسمى بقوات سورية الديمقراطية بعد معاناة طويلة في استعادة السيطرة على مدينة منبج الاستراتيجية من تنظيم الدولة، واعتزامه التوجه إلى مدن ومناطق أخرى كالباب في ريف حلب، التي تعد معقل التنظيم في محافظة حلب، ترافق مع حملة إعلامية أمريكية كبيرة للترويج لهذا «الإنجاز» وتقديمه للرأي العام العالمي على أنه من إنجازات التحالف الدولي ضد «داعش» الذي انطفأ صيته وسيرته بعد سنوات على إنشائه.
قد يرى البعض في هذا الحدث (تحرير منبج) مجرد نصر عابر وآني وعادي في ظل الحرب الضروس التي تشن على عناصر تنظيم الدولة اينما حلوا، وهو كلام له حيز من المنطق والقبول، لكن قراءة تاريخ الإدارات الأمريكية في البيت الأبيض، تجعلنا نضع هذا الحدث، بالإضافة إلى احداث أخرى في كل من العراق وليبيا، على طاولة السبر لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور.
جرت عادة الإدارات المنتمية للحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة على زيادة النفوذ الأمريكي في العالم، كلما تسلمت سدة الحكم، بالتناوب طبعاً مع الحزب الجمهوري، ولكن عن طريق أسلوب يختلف عن أسلوب الحزب الجمهوري، الحزب الديمقراطي يروم خلق «فزاعة» عالمية كلما تسلم زمام الأمور في واشنطن، وتضخيمها، ومحاولة استغلال الرهاب العالمي منها في كل بقاع العالم (تنظيم القاعدة نموذجاً) ومن ثم استثمار سنوات حكمه (4 – 8) في محاربتها وتوسيع النفوذ الامريكي في مناطق محددة من العالم، ولاسيما في الشرق الأوسط، ومن ثم يعكف في نهاية ولايته على إنهاء هذه «الفزاعة» الإرهابية والهاجس الأمني ونسبة ما تحقق من ذلك لمن تنتهي ولايته في البيت الأبيض (وبصرف النظر عمن سيحل خلفه في البيت البيضاوي الذي غالباً ما يكون جمهورياً).
الرئيس الامريكي بيل كلينتون الديمقراطي النزعة والانتماء، نموذج بارز على هذه السياسة ففي عهده نشأ تنظيم «القاعدة» وتوسع، واستغلت واشنطن المخاوف منه لتوسيع نفوذها في كل أرجاء العالم، ومن ثم وبطرفة عين، اختفى نفوذ التأثير وتشتت قواه، مع انتهاء ولايته (كلينتون تولى بين عامي 1993-2001).
ما سيجري حالياً بعد أن أنشأت إدارة اوباما تنظيم «الدولة» أو «داعش»، كما أعلن ذلك (ليس جزافاً) المرشح الجمهوري دونالد ترامب، هو محاولة لملمة البعبع الداعشي والقضاء على قوته وتشتيته في الأرجاء والقضاء على مشروع دولته في العراق وسورية، ومن يلحظ التحركات العسكرية الأمريكية الأخيرة في العراق تحديداً، وبناء قاعدة القيارة وعودة الجيش الأمريكي رسمياً إلى العراق لا على شكل مدربين واستشاريين، كما كان في السابق، يؤكد سعي البيت الأبيض حالياً إلى الهجوم على الموصل واستعادتها بالتعاون مع الجيش العراقي، ولن يتم الالتفات إلى أي من الخلافات الداخلية العراقية المؤجلة لعملية تحرير الموصل.
في السياق نفسه، شكلت الضربات الجوية الأمريكية لتنظيم «الدولة» في ليبيا ومدينة سرت تحديداً صدمة دولية، ولاسيما لروسيا التي اعتقدت أن واشنطن تخلت عن مبدأ المبادرة في الهجوم في العالم من دون استشارة أحد، فلم يبال الرئيس أوباما بأي انتقادات وشن هجمات موجعة على التنظيم في معقل التنظيم الوحيد في ليبيا (سرت) وسوف تنتهي العملية قريبا بتحريرها وعودتها إلى ليبيا، لتصفية نفوذ التنظيم في البلاد.
أمر آخر سوف تلجأ إليه إدارة أوباما قبيل نهاية ولايتها، وسوف يشكل صدمة ومفاجأة بالنسبة للجميع، وهو القيام بتسوية تاريخية في الشرق الأوسط (كما فعل كلينتون الزوج تماماً) لكن هذه المرة سوف لن تشمل الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، بل ستضم الفرقاء في سورية، لإغلاق هذا الملف في عهده قبل الانتقال إلى عهد جديد.
سعي الإدارات الأمريكية الديمقراطية لخلق الأزمات وإنهائها قبيل رحيلها، وكذلك إنشاء الفزاعات الإرهابية والأمنية واحتوائها في النهاية، هو سياسة دائمة للإدارات الديمقراطية في العالم، بعكس الإدارات الجمهورية التي تفتعل الحروب المباشرة وتخوضها غير آبهة بما ستؤول إليه نتائجها.
خلاصة ما تقدم.. سوف لن تنتهي ولاية الرئيس أوباما من دون تصفية نفوذ وقوة تنظيم الدولة (داعش) في كل من سورية والعراق وليبيا في آن معا) وفي الوقت نفسه، من دون أن يعني ذلك طبعاً القضاء عليه نهائياً، وعلينا انتظار تصاعد العمليات العسكرية الأمريكية ضد التنظيم لتصفيته خلال الأشهر القليلة المتبقية، كما علينا انتظار تسوية سياسية شاملة في الشرق الأوسط أو على الأقل مؤتمراً دولياً مهماً حول فلسطين من جهة، وسورية تحديداً من جهة أخرى، لرسم معالم المنطقة وترسيمها قبل نهاية ولاية أوباما.. وافتتاح عهد «غورباتشوف أمريكا» (ترامب)!
المصدر : القدس العربي