حينما طُرحت المبادرة العربية الخاصة بنقل السلطة في سورية مطلع 2012، لم تكن التنظيمات الإرهابية ظهرت فعلياً بعد، حيث لم يتعدّ عمر الجيش الحر، الجهة الوحيدة المسلحة، بضعة شهور. آنذاك، بلغ إجمالي عدد اللاجئين السوريين نحو ربع قاطني مخيم الزعتري حالياً. وقتها، ثارت ثائرة غالبية أطراف المعارضة والمنصات الداعمة للحراك في الداخل، معتبرةً تلك المبادرة استسلامية كونها توفر مخرجاً آمناً لرأس النظام ورموزه. واليوم، يُطل أصحاب عقلية «كل شيء أو لا شيء» أولئك من وراء قرابة 12 مليون لاجئ ونازح، معظمهم سنّة، ووسط غبار المعارك التي تخاض في سورية على طريقة «الكرة الشاملة»، بينما تترسخ أكثر فأكثر حقيقة «فلسطنة» القضية السورية.
تبين جلياً بعد كل تلك الأحداث، أن الخاسر الأكبر مما جرى ويجري هو ما يمكن تسميته «المجتمع السني» في سورية، الذي يراد له أن يتفكك ويتحول إلى تجمعات متفرقة في الداخل ومتوطنة في الخارج.
وإن كانت عمليات التطهير والتهجير الممنهج ومسح قرىً وأحياء من الوجود وحرق سجلات النفوس والعقارات، تكتيكات معروفة لمثل هذه النوايا، فإن كل ذلك حدث ضمن استراتيجية حرب طويلة الأمد، أراد النظام أن يشارك فيها الخارج، لا يظهر أن معسكر المعارضة تحضّر لها.
ومن هنا، يمكن فهم لماذا كافح الاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاق مع الأردن لتبسيط قواعد المنشأ أمام الصادرات الأردنية مقابل أن يكون ما لا يقل عن 15 في المئة من إجمالي القوى العاملة في المصانع الراغبة في التصدير من السوريين، وما الذي يرام من التعهدات بتشغيل نحو 200 ألف لاجئ هناك على مدى ثلاثة أعوام (لاحظوا المدة) نظير مساعدات إلى المملكة. ومن هنا أيضاً، يكون تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الصادر قبل شهور، والذي تحدث عن ضرورة «إدماج» اللاجئين السوريين في لبنان، أكثر من بوحٍ غير مقصود لمكنونات صدور أولي الأمر.
وتروّج أطراف في المعارضة السورية، «تشتغل» عند الأتراك، منذ عام ونصف العام لخيار التوطين، تارةً ببحثه في دراسات مكثفة خلصت عمداً إلى أن السوريين في تركيا لا ينوون العودة إلى بلادهم حتى لو استقرت الأمور، وتارةً أخرى بطرحه للنقاش الإعلامي على رغم أنه لم يكن متداولاً.
وعليه، لم يكن مستغرباً أن يصرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أخيراً، بنيته منح حقوق المواطنة إلى النخبة السورية، وهو الذي عمل على التخلّص من غير المرغوب فيهم بشحنهم إلى أوروبا، بمساعدة مستترة من «سوريي اسطنبول». الأوروبيون بدورهم لم يألوا جهداً لسن قوانين تغري حتى من كان يملك عملاً داخل سورية أو في دول الجوار على بيع ممتلكاته وركوب البحر على أمل تخليص أولاده الذين سينشأون هناك من «وصمة» الجنسية السورية إلى الأبد.
أما لماذا كل ما سبق، فلأن اللاعبين الدوليين والإقليميين ونظام دمشق يريدون إعادة رسم سورية من الداخل مستغلين ما بدأ في 2011 وما تلاه. ولأن الهندسة السكانية فيها لا تصح إلا بإعادة دمغرفة المجتمع السنّي، فإن العناد الطفولي للكثيرين من منظّري الثورة المصرّين حتى اللحظة على إكمال الطريق بالكيفية نقسها كأن الزمن لم يتحرك، فضلاً عن الارتزاق الفجائعي للكثير من الحركات السياسية والفصائل العسكرية المعارضة، هي بالتحديد ما يفرك النظام ومريدو ذلك المشروع الكبير أيديهم له.
فما فشل فيه الأسد وأحجم عنه أيام «السلم» لانتفاء الذرائع، استثمره زمن «الحرب» أيما استثمار. فاستخدم تمدد الجهاديين لشرعنة سياسة الإفراغ، في حين توهمت المعارضة ومن معها أن غض النظر عنهم كفيل بجلب التدخل الغربي مخافة استلامهم السلطة. ويكفي، على سبيل المثل، أن مشروع «حلم حمص» الذي أُطلق رسمياً في 2010 قبل أن يتوارى اضطرارياً، حققه الأسد بربع المدة (5 أعوام بدلاً من 20) بفضل دم المعارضة المسلحة الحامي التي أصرت على قتاله حتى آخر مدني حمصي.
لقد أضحت الطبقة المتوسطة السنيّة في سورية (وليس برجوازيي المدن فقط) بقايا وفتات. وبات ممثلوها إما نازحين في مناطق لا تشكل كتلة بشرية متوحدة كبيرة متصلة بمثيلتها، ومن دون وظيفة مرموقة وتعليم، وهما مدماك تلك الطبقة على مدى عقود طويلة، أو لاجئين فقدوا أمل العودة معتاشين على المعونات بعدما كانوا عماد الكفاءات الأكاديمية والاقتصادية. هؤلاء شكلوا على الدوام العمود الفقري لسورية السياسة والاقتصاد والفكر التي عرفناها وقرأنا عنها. وبالتالي، فإن غيابهم يعني أن علينا توقع سورية جديدة من دونهم، اللهم إلا إذا بقي للمنطق مكان ونظر المكابرون إلى الصورة الكبيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والكف عن عبثية خيار شمشون لأن المعبد هنا سيهدم فوق رؤوسهم فحسب.
المصدر : الحياة