عندما بدأت الثورة السورية قبل قرابة الست سنوات وفي أول مظاهرة كسرنا فيها الخوف وبأحلامٍ وردية بسيطة لشباب مفعم بالثورة و الاستمرارية . سقطت حباتُ مطر خفيفة شدّت من عزيمتنا في مواجهة العالم الحر والمبني للمجهول ، فقد ظن أحدنا وقتها أنّ السماء تساند الأرض وهو تعبير عن الخيال الصوفي بامتلاك كل الطبيعة بما يقترن بقضيتك أنت كمريد وصاحب رسالة سامية مهما كان حجمها وأبعادها و أحقيتها وأهميتها ؛ فقضيتي تساندها الغيوم المليئة بالرحمة والغضب أيضاً ، فالصوفي يدور وكأنه مركز الكون.
وفي أول تدوينة تصف ذاك المشهد بخيال الصبي الصغير الصوفي والسلفي ، كدلالةٍ على الصراع الداخلي في تحديد الهوية المتناثرة للمسلم البسيط . كتبت أنّ أول صرخة للحرية بعد تحطم الصمت الذي كاد لينفجر داخل أفواهنا ليقتلنا إن لم نقلها ، ونحن نطير من الفرح كنت أرى المسجد الأقصى أمامي ، لم أكذبْ كنت أراه مع دموعٍ لا تُصدق ، هكذا كان أول يوم في الثورة كحلم.
سوريا تحسم أمرها من درعا “الشعب السوري ما بينذل” وتشارك دمشق و دوما وحمص واللاذقية وبانياس وبقية المدن لتسقط صنمية 40 عام وفلسطين البوصلة
في عموم البيوت السورية كنّا فلسطينيين وعراقيين أخذتنا الانتفاضة لأبعد حد وجداني ووجودي ، وأثار غزو العراق في داخلنا طفولة ناقصة ونحن نشاهد مع أهلنا الطائرات تقصف بغداد والفلوجة بدل أن نلعب أو نشاهد الأفلام الكرتونية ، تربينا على محمد الدرة ، كان الدرة ومشهد مقتله يتكرر مئات المرات في البيت ، عشرات من الشباب الذين كانوا أكبر منا سناً نتدارس معهم القرآن في المساجد قد اختفوا كانوا في طريقهم إلى العراق وإذ بهم في فلسطين ، لفلسطين هذه حكاية كبيرة تحرمها تأنيثَ اسمها ، وتلحقها بذكوريةٍ حقيرة لتكون ببساطة ” فرع فلسطين ” اسم يشرح لك مركزية القضية في نفوس ساكنيه تحت الأرض بأفواج من الناس وصرخاتٍ يسمعها أهل القبور والضمير فقط .
عندما بدأت ثورة تونس كانت دمشق باردة وساكنة والهدوء يعم أزقتها القديمة تستعد لاستقبال عامها الجديد ولم يعلم أحد أن تاريخها سيكتب كذلك من جديد ، قلة هم الذين يتابعون ما يجري على شبكة الانترنت ، بن علي يهرب و نصلي شكراً ، أبي يطير فرحاً . مصر تثور ، دمشق ما زالت هادئة ولكن ملامح الحذر أصبحت تبدو على الوجوه أكثر ، الجزيرة ما زالت القناة المفضلة عند الجميع وعاجلها الأحمر يظهر من بعيد ، تراها في أغلب المحال والمقاهي وحتى المستشفيات ، مبارك يرحل عن السلطة والجموع تسجد شكراً ونحن من قلب الشام نفعلها.
ليبيا تعاند العقيد المجنون ويضرب الشعب بهستيريا السلطة والمنطق الأرعن ، يلاحقهم ” زنقة زنقة دار دار ” من أنتم ؟ نحن الشعب الغالب . اليمن تدخل الخارطة بتسارع لحظي وساحات التغيير تمتلئ أمام جامعة صنعاء كتعبير جلي عن الفئة المتوسطة والمثقفة التي تريد أن تؤسس لمجتمع سياسي آخر ، دروس في السلمية رغم ملايين قطع السلاح . سوريا تحسم أمرها من درعا “الشعب السوري ما بينذل” وتشارك دمشق و دوما وحمص واللاذقية وبانياس وبقية المدن لتسقط صنمية 40 عام وفلسطين البوصلة.
هكذا كانت تسارع الأحداث للربيع العربي ، لم تكن الرياح بهذه البساطة من الإيجاز كل حرف منها قد تشبّع بالدم وكل تكبيرة لَحقَ صاحبها رصاصة ، كل رفض للظلم نقل الصارخ نحو المجهول ..
كانت المشكلة فيمن جزأ الربيع إلى جزئين أو قسّمه لأقسام عدة مع أنّه لا يمكن تجزئته ، فالعامل الأخلاقي يقول أن المطالب متشابهة وبُعدُ الهوية واحد وإن لم تستند الشعوب على مرجعية ثورية فهي تؤصل لمرجعيتها الخاصة والتي تفوقت بوعيها واندفاعها على ثورات أسست لحقب تاريخية لا تُنسى كالثورة الفرنسية والأمريكية. وقد قادها شباب بدرجة من الوعي والفهم لتأسيس بنية تحتية سياسية واجتماعية وعمرانية لدولهم يستطيعون بعدها ممارسة حقوقهم وأنشطتهم دون إغفال حق الأمة العام بدءاً من فلسطين وليس انتهاءاً بمسلمي مينمار الذين يموتون حرقاً إذ لا يختلف الأمر كثيراً عليهم من ناحية المبدأ الأخلاقي إن لم نقل الديني والإنساني .
ومع ذلك حاول حفنة ليست بالقليلة من ثنائية المثقف والشاعر “العربي” من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، قوميين ومحافظين إغفال ثورات عظيمة قدمت مئات ألوف الدماء قرباناً للحرية والكرامة كسوريا و اليمن وليبيا فقط لأنها تسلحت وإن لم يكن السلاح فيها ترفاً ، وألحقوا بها وصف الحروب الأهلية والطائفية ، ولم يستطيعوا أن يشيروا بالبنان ولو لمرة واحدة لمن قتل وحرق وهجر واغتصب ودمر تلك البلدان ، بل ألقوا بالتهم على الشعب السوري بأنهم حرفوا مشروع إيران عن تحرير فلسطين ونصرتها ، لنكون نحن من حرفنا بندقية حزب الله عن جنوب لبنان إلى جنوب حلب والقصير و جرود القلمون .
خمس سنوات من الدم لم تكن كافية لنكون أخلاقيين في سوريا ومركزيين في فلسطين ، خمس سنوات لم تكن كافية لنفهم مشروع إيران في منطقتنا العربية وتقاطعه مع مشروع إسرائيل بدم الشعوب
حاولوا وما زالوا جاهدين في أشعارهم ومقالاتهم أن ينسفوا أحقية شعوب عظيمة في الثورة من أجل مركزية فلسطين وفشلوا ونسوا أو تناسوا “أن بوصلة لا تمر بالشام لا تمر بالأقصى ” وهي كلمة قالتها فلسطينية لي ، نعم كيف نوفق بين أخلاقية الوقوف مع سوريا ومركزية الهدف في فلسطين كيف يمكن أن نجزأ الموقف والمبدأ . رغم أنّ ثورة سوريا مع فداحة ما يجري في أرضها والأخطاء التي ارتكبت فيها لم تحسم بعد فالشعب فيها طرف والسلطة مدعومة من دول عظمى طرف آخر يفني الأول في حرب وجود .
كيف تكون شاعراً تؤرخ لقضية عادلة وأنت تنسف قضية لا تقل عدالة وأحقية عنها وربما تفوقها في الضحايا والمهجرين بمئات الآلاف وربما الملايين .
خمس سنوات من الدم لم تكن كافية لنكون أخلاقيين في سوريا ومركزيين في فلسطين ، خمس سنوات لم تكن كافية لنفهم مشروع إيران في منطقتنا العربية وتقاطعه مع مشروع إسرائيل بدم الشعوب .
خمس سنوات لم تكن كافية لفهم صيرورة التاريخ وأن أنصاف الثورات ما هي إلا مقابر تدفن شبابها كما حصل في مصر ، وإعادة إنتاج لفساد أكبر وظلم مضاعف ، ولم تكن كافية لأن يرى النُخب أحلام الشعوب بعيداً عن أفكارهم الضيقة والمختصرة في قطرية أو حدود أو مذهب وانسلاخهم عن المشاريع الكبرى والتي تُعبد الطريق بالدم لتحرر أكبر و أجيال رائدة . لتكون ثورة سوريا شرف لمن ألحق اسمه باسمها و مشروعه بمشروعها .
المصدر : مدونات الجزيرة