مقالات

باسل الحاج جاسم – موسكو من دمشق إلى طشقند

لا يختلف اثنان في أن أوزبكستان كانت على قائمة الثورات الملونة في وزارة الخارجية الأميركية منذ سنوات، ففي بدايات الألفية الجديدة، كان التأثير السائد في آسيا الوسطى هو تأثير روسيا. حينها بدأت أوزبكستان بالانجراف نحو مزيدٍ من التعاون مع أميركا، وعندما ازداد نفوذ واشنطن بشكل كبير، وقامت ثورة ملونة في قيرغيزستان المجاورة عام 2005، قرّرت أوزبكستان التخلص من القواعد العسكرية الأميركية، وبدأت التركيز أكثر على روسيا.

التدهور الأكثر دراماتيكية في العلاقات مع الغرب حدث في عام 2005، بعد أحداث أنديجان، قتل فيها نحو 187 شخصاً، واعتبرت الحكومة الأوزبكية بعد محاكماتٍ شكّك بها حقوقيون، أن المتظاهرين دعوا إلى الجهاد، وكانوا يريدون إطاحة الحكومة وإقامة دولة الخلافة الإسلامية.

اتبع رئيس أوزبكستان الراحل، إسلام كريموف، طوال فترة حكمه، سياسة خارجية مستقلة، ولم يصبح موالياً لأميركا أو ورقةً بيدها، حتى إنه طرد القاعدة العسكرية الأميركية من أراضي بلاده. وفي الوقت نفسه، فضّل البقاء خارج التجمعات التي ضمت جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق تحت وصايةٍ روسية، إذ انسحبت أوزبكستان من منظمة معاهدة الأمن الجماعي مراتٍ، ولم تنضم إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، إلا أن كريموف اعتبر على الدوام روسيا دولة صديقة.

يعتبر المراقبون أوزبكستان أكثر دول آسيا الوسطى استفادةً من حرب واشنطن على “الإرهاب الدولي”، فقد كانت في طليعة دول العالم التي استضافت على أراضيها قوات أميركيةً قرب الحدود الأفغانية في منطقة خان آباد، كما أن المساعدات الأميركية كانت متواصلةً إلى أوزبكستان، طوال السنوات التي تلت الحرب على أفغانستان.

أجاد كريموف سياسة اللعب على وتر المصالح الدولية، يساعده في ذلك موقع بلاده الجيوسياسي المهم، مستغلاً التنافس الأميركي- الروسي في منطقة آسيا الوسطى، ليحـصل من هـــذا الطرف أو ذاك على ما يخدم أهداف سياسته في البقاء على رأس السلطة، كما أن التنافس الصيني لم يكن بعيداً عن الأجواء، وطشقند تعتبر شريكاً تجارياً رئيسيا لبكين، وكذلك حليفاً في محاربة الإرهاب والانفصالية التي تعتبر ملفات أساسية للصين، وخصوصاً مع وجود أعداد كبيرة من الإيغور في أوزبكستان وعموم آسيا الوسطى.
كان إسلام كريموف قادراً على بناء التوازن الضروري بين العشائر والعلاقات الخارجية، وجاء توازناً ناجحاً حقق استقراراً لسلطة كريموف نفسه. ولكن، بعد وفاته قبل أيام، يمكن أن تصل الأمور إلى حرب شاملة بين العشائر للسيطرة على “عرش طشقند”. وفي إشارةٍ واضحة إلى نجاحه في إنشاء نظام من الضوابط والتوازنات، طوال فترة حكمه، والذي استمر أكثر من 26 عاما، لم يتعرّض كريموف لأي محاولة انقلاب من العشائر أو من محيطه.

يبدو على الساحة الأوزبكية اليوم أنصار الحكومة القوية، والإسلاميون المتطرفون، وممثلو هياكل السلطة، والعشائر الإقليمية، وبالتالي، تفتقر الساحة السياسية إلى العوامل التي هي الأهم لتنفيذ “ثورة ملونة”، أو انقلاب عسكري، خصوصاً أن الوضع على الحدود مع أفغانستان معقد. وحتى في زمن الاتحاد السوفييتي، حاول المتطرفون التسلل إلى أوزبكستان، وفصل وادي فرغانة عن الدولة.

تعتبر أوزبكستان من أهم قنوات عبور المخدرات من أفغانستان إلى روسيا وأوروبا، ويعاني غالبية سكانها من الفقر المدقع، مع غياب فرص العمل، وغالبية العمال هم من المهاجرين في روسيا من أوزبكستان. ويزيد ذلك كله في السخط والتطرف بين صفوف سكان الدولة ذات الثقل الأكبر ديمغرافياً وتاريخياً في آسيا الوسطى، ويشكل العرق الأوزبكي غالبية سكانها (يتجاوز 30 مليون نسمة)، فيما يدين أكثر من 88% من الشعب بالإسلام.

وتنشط هناك حركة أوزبكستان الإسلامية وحزب التحرير، والحزب التركستاني الإسلامي، وحركة الإكرامية، وكذلك جماعات إسلامية عديدة متطرفة صغيرة تجنّد بنشاط أنصارا جدداً. ولا يستبعد أن وفاة كريموف فتحت الباب لتنظيم داعش لبدء العمل في أوزبكستان، لتكون البلاد ساحة لعدم الاستقرار وإحدى النقاط المرجعية للتنظيم المذكور، في حال فشل الحرس القديم في الاتفاق على خليفة قوي لكريموف، وهو الذي لم يسم أحداً. ومن المحتملين لولا كريموفا، الابنة الصغرى للرئيس، الممثل الدائم لأوزبكستان لدى اليونسكو، ورئيس الوزراء شوكت ميرزاييف، ونائب رئيس الوزراء وزير المالية رستم عظيموف، ورئيس جهاز الأمن القومي رستم إينوياتوف، ورئيس مجلس الشيوخ في الجمهورية نيغماتولا يولداشيف، ويتصف عظيموف باعتباره الأكثر ارتباطا بالمؤسسات المالية الدولية، وبالتالي، لديه فرصة أفضل لتحويل سياسة أوزبكستان نحو الغرب، بينما يُنظر إلى ميرزاييف على أنه حاكم مستقبلي مستبد، وهو أقل رضا من الغرب.

وفي غياب شخصية موحدة للخلافة، ستحافظ النخبة البيروقراطية الحاكمة على تعاونها،لضمان سيطرتها على السلطة، والحيلولة دون انتقالها إلى جهة أخرى، في ظل ارتباك المجتمع، ومن غير المستبعد أن تتحالف شخصياتٌ ضعيفة، لإقصاء المرشح القوي.
يبلغ متوسط عمر المواطنين في أوزبكستان 27 عاماً، أي ما يعادل فترة حكم كريموف، ويمكن لهؤلاء أيضا الخروج للشوارع، في ظل افتقارهم إلى متطلبات الحياة. وقد يكون هذا التطور بداية ظهور قوة جديدة في البلاد، تطالب لنفسها بالحكم، أو قد يدخل أوزبكستان في الفوضى التي قد يزيد من حدّتها استغلال الحركات المتطرفة للحدث، وعودة نشاطها، والمشاركة في تفاعلاتها.

أوزبكستان محاطةٌ بدول غير مستقرة، ومعرّضة أيضا للانفجار. وحدها كازاخستان يبدو الوضع فيها مطمئناً حتى الآن، إلا أن طاجيكستان وقيرغيزستان مهدّدتان بخطر الحركات المتطرفة والنزاعات العرقية والحروب الدينية، ووحدها روسيا ستكون في مواجهات كل تلك التحديات من استقبال اللاجئين إلى التعامل مع تهديدات انتقال الفوضى والتطرّف.

صحيح أنه يمكن لأوزبكستان أن تنحدر إلى حالةٍ من الانقسام والتردّد، خصوصاً أن البلاد غنية بعوامل الانفجار، إلا أن تجربة الجارة تركمانستان تبشر بنتائج مشجعة، فهناك، أيضا، كانت البلاد مغلقة، ولم تكن ديمقراطية. ومع ذلك، لم تنشب هناك حرب أهلية عند وفاة حاكمها المطلق سابار مراد نيازوف المفاجئة، وتم اختيار زعيم جديد بسلاسة مطلقة.

يبقى القول، إنه في الوقت الذي تسعى روسيا على أكثر من جبهة، لتعزيز وجود عسكري دائم لها في سورية، وإجبار الأطراف الإقليمية والدولية على تقديم تنازلاتٍ في أكثر من ملف لا علاقة لسورية بها، جاءت زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في طريق عودته من قمة العشرين، إلى مدينة سمرقند الأوزبكية، ولقاؤه عائلة الرئيس الراحل، ورئيس الوزراء، في رسالة واضحة إلى أكثر من جهة داخلياً وإقليميا ودوليا، أن طشقند تنظر إليها موسكو، السوفييتية والروسية، حديقة خلفية، لا تقل أهميةً عن القرم وطرطوس، وسط شرق أوسط كبير.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى