لا يلخّص حال لبنان، المزرية الى أقصى حد والرهينة برمتها في يد «حزب الله» وأتباعه ومن خلفهم إيران، أكثر من القرار الاتهامي الذي أصدره القضاء اللبناني قبل أسبوعين ضد ضابطي استخبارات سوريين لمسؤوليتهما عن تفجير مسجدين، في وقت واحد وفي أثناء صلاة الجمعة فيهما، في مدينة طرابلس قبل ثلاثة أعوام.
قرار كهذا، يتعلق بأي بلدين طبيعيين في العالم، كان يفترض أمرين على أقل تقدير: أولاً، قيام الدولة المعتدى عليها (لبنان في هذه الحال) باستدعاء سفيرها في الدولة المعتدية، أقله بدعوى التشاور، كما استدعاء سفير هذه الدولة لديها لإبلاغه احتجاجها، وإن يكن مع ترك الأمر في النهاية للقضاء يواصل تحقيقاته في المسألة ويأخذ قراره بعد ذلك. ثانياً، لجوء الدولة المتهمة الى إجراء من ثلاثة: المبادرة الى النفي كما هي العادة في مثل هذه الحالات، أو الاستمهال لإجراء تحقيقاتها الخاصة، أو ربما إبداء الاستعداد للتعاون من أجل كشف الحقيقة.
لم يحدث شيء من هذا حتى الآن، ويكاد يكون أكيداً أنه لن يحدث في وقت لاحق لأسباب يعرفها الجميع في لبنان، كما يعرفونها في سورية وإيران، وفي غيرهما من دول المنطقة والعالم.
لبنانياً، لا يخفى على أحد أن أموراً أبسط من ذلك وأقل كلفة لم يمكن الوصول بها الى حل في الفترة الماضية، على خلفية سياسة تفريغ الدولة ومنعها من القيام (عدم انتخاب رئيس للجمهورية بعد عامين ونصف عام من شغور الموقع، تعطيل الحكومة ومجلس النواب ومنعهما من حل مشكلات مثل التعيينات في الإدارة أو حتى جمع النفايات من الشوارع، كي لا نتحدث عن شيوع الفقر والبطالة أو فقدان مياه الشرب والكهرباء)…. ربما، ضمن أشياء أخرى، لإيصال البلد الى حال العجز عن اتخاذ قرار بديهي، مثل استدعاء السفيرين في دمشق وبيروت بعد القرار الاتهامي بحق الضابطين السوريين.
ولم ينسَ أحد بعد كيف عمّم هذا العجز، عقب زج الآلاف من الشبان اللبنانيين في الحرب السورية، كما في العراق واليمن وغيرهما، على رغم الموقف الرسمي المعلن لما يسمى «الدولة» (النأي بالنفس)، فضلاً عن تعمد الدفاع عنه في وقت لاحق، كما عن الانخراط في الحرب، باعتبارهما شيئاً واحداً لا خلاف حوله ولا تناقض فيه.
على مستوى سورية (نظام الأسدين)، لم يبد يوماً أنها تعاملت مع لبنان كدولة سيدة أو مستقلة، لا سيما في فترة الوصاية المباشرة التي بدأت في التسعينات، ثم في ما تلاها من توريث لها الى إيران و»حزب الله» وأتباعهما، ولا تزال مستمرة حتى الآن. ولعل مقولة «وحدة المسار والمصير»، التي سادت في تلك الفترة، وعنت فقط لبنان من ناحية و»سورية الأسد» (كما «الأسد الى الأبد» و»الأسد أو نحرق البلد») من ناحية ثانية، تكشف حقيقة هذا التعامل.
ولا حاجة إلى إعادة التذكير بموقف سورية من اغتيال كمال جنبلاط، وبعده اغتيال بشير الجميل ورينيه معوض ورفيق الحريري (الذي قال الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله أنه فقط بعد 30 أو 300 سنة يمكن تسليم المتهمين بقتله)، ولا لاحقاً مسلسل التفجيرات الذي طاول عدداً من الوزراء والنواب وقادة الرأي، وصولاً الى مؤامرة علي المملوك- ميشال سماحة واعتراف الأخير، بالصوت والصورة، بما كانت تهدف إليه.
ولكن، الى ماذا تشير هذه الحال المزرية الى أبعد حد، بين لبنان وسورية هذه أولاً، ثم بينه وبين «الولي الفقيه» الإيراني و»حزب الله» اللبناني، وربيبهما المقيم في سورية، في الفترة الراهنة؟
لا جديد في القول إنه لم يعد ممكناً قيام دولة في لبنان (بصرف النظر عن إيجابياتها وسلبياتها، وحتى عن عيوبها ومثالبها الكثيرة) ما دام نظام عائلة الأسد موجوداً، ولو صورياً كما هو الآن، في سورية. إلا أن الجديد الذي لا يجوز إغفاله، ولا كذلك التقليل من خطره الآن أو في المستقبل، هو «الوريث» المعين سلفاً وقسراً لهذا النظام، ليس في سورية فقط (فضلاً عن العراق واليمن) إنما في لبنان أيضاً: نظام الميليشيات الطائفية والمذهبية والعرقية، بمفاهيم وعلى طريقة حروب القبائل والعصور الوسطى.
عملياً، لا معنى لانخراط إيران وميليشياتها المذهبية، الأفغانية والباكستانية والعراقية واللبنانية، في الحرب السورية، وبدعوى الدفاع عما يسمى محور «المقاومة والممانعة»، إلا هذا المعنى تحديداً وفي شكل خاص.
لا يقول هذا الجنرال الإيراني قاسم سليماني، وهو يتنقل علناً بين الجبهات في سورية والعراق واليمن، إنما كذلك السيد حسن نصرالله، وهو يتنقل في خطبه المتلفزة بين سورية والعراق والسعودية والبحرين واليمن، معلناً (من دون أن يطالبه أو يحاسبه أحد) أن ميزانية حزبه رواتب أفراده وطعامهم وشرابهم وسلاحهم وذخيرتهم تأتي من إيران.
ومثل قاسم سليماني، الذي يزعم أن مهمته في الجبهات تلك هي الدفاع عن إيران ضد الأخطار التي تهددها، يدعي نصرالله أنه يدافع عن لبنان في وجه من يسميهم التكفيريين الذين يهددون، كما يقول، باحتلاله في أي وقت وإعلانه إمارة لهم.
وبالعودة الى القرار الاتهامي ضد الضابطين السوريين (محمد علي علي وناصر جوبان) وقتلهما عشرات المصلّين في مسجدي «التقوى» و»السلام» في مدينة طرابلس، وبالتالي ضد بشار الأسد ونظامه، لا يصدم فقط أن الدولة/ الرهينة والمعطلة والعاجزة (بفضل «حزب الله» وأتباعه) لم تفعل شيئاً رداً على الجريمة، إنما أن أحداً لم يسمع كلمة واحدة من الحزب، أو من أي من أتباعه اللبنانيين، دفاعاً عن البلد وضد قتل المصلّين بدم بارد فيه.
… وهذه، كما يبدو، صورة لبنان التي يعدنا بها الحزب وحلفاؤه وأتباعه… مع الأسد، وحتى بعد رحيله وزوال نظامه.
المصدر : الحياة