بقرار أميركا وروسيا اعتبار جبهة النصرة، أو جبهة فتح الشام بمسماها الجديد، تنظيماً إرهابياً تجب محاربته والقضاء عليه، يصير قيام نظام إسلامي في سورية ضرباً من الاستحالة، مهما وفّرت “الجبهة” له من قوى ميدانية، بشرية وسلاحية، وناصرتها التنظيمات “المعتدلة” أو شاركتها القتال من أجلها. بهذا القرار، تكتمل أيضاً حلقة المبادرين إلى رفض الدولة الإسلامية من العرب ودول الإقليم، الذين لم يتأخروا في الإفصاح عن موقفهم منها، كالأميركيين والروس، بل أعلنوا، في مرحلةٍ مبكرة من الثورة السورية، موقفهم حيالها، واعتبروها تهديداً خطيرا لأمن المنطقة ولنظمهم واستقرارها.
إذا كان هذا التقدير صحيحاً، وهو صحيح، يكون من العبث الانضمام إلى “جبهة فتح الشام” في مقاتلة الروس والأميركيين، بالنظر إلى نتائجه الصفرية سياسياً التي تجعل تأسيس دولة إسلامية في سورية محظوراً عربياً ودولياً، ولأن الانضمام إليها سيجر التنظيمات المقاومة الأخرى، والصراع في سورية، إلى حال أفغانية، ستغوص بسببها في حربٍ لا نهاية لها، مرتفعة التكلفة إلى حد خطير، قد يقوّض مقومات وجود سورية واستمرارها دولةً ومجتمعاً، في حين يستطيع الأميركيون والروس التعاون على التعايش مع هذه الحرب إلى أن يتم القضاء على فرص قيام النظام الإسلامي العتيد، إن هو نجح في السيطرة على البلاد، أو إذا أعلنت بعض فصائل المقاتلين إقامته التي لن تبدّل الأمور، لأنه سيشبه نظامي “طالبان” و”داعش”، الموجودين افتراضياً، لكنهما لا يشكلان دولتين بمعنى الكلمة، ما دام حملتهما مقاتلين أفرادا جوّالين، وما دامتا تفتقران إلى ما يميز الدول من مؤسساتٍ، ويسمها من شمولٍ وعلانية، وتتمتع به من ولاء المواطنين لها وقبولهم بها.
ليس تخلي جبهة فتح الشام عن هويتها القاعدية تنازلاً تقدمه لأحد، بل هو تدبير عقلاني تمليه الواقعية والحكمة: الواقعية التي يجب أن تكون من صفات قادتها، وتتركّز حول استحالة قيام النظام الإسلامي الذي يقاتلون من أجله، من جهة، وجسامة ما سيقدم من تضحيات مجانية في سبيله ستدفع الشعب إلى الانفكاك عنهم، ورفض مشروعهم من جهة أخرى، والحكمة التي ترى أن للواقع تجليات متنوعة، لا تقتصر على شكل وحيد قائم، إن تشبث قادة أي تنظيم سياسي أو عسكري به، ورفضوا بدائله الأفضل، كانوا مجموعة حمقى، وفشلوا في آنٍ معا في المحافظة على تنظيمهم وقضيتهم التي لا تنتصر، كأية قضية أخرى، إن لم تعرف كيف تتكيّف بنجاح مع تحولات الواقع، وبالأخص منها التي لا يمكنها تحدّيها ناهيك عن تخطيها، ويترتب على رفضها ثمن باهظ إلى درجةٍ تنتفي معها فرص النجاة والاستمرار.
إذا كان من المحال أن تنجح “الجبهة” في إقامة نظام إسلامي، مهما قدّم الشعب السوري من تضحيات، وكان التشبث بانتمائها إلى القاعدة يهدّد بتقويضها هي، وبقية الفصائل المسلحة التي ستتعرّض للضرب مثلها في حال تحالفت معها، وستفقد قوتها الوازنة والمؤثرة في حال نأت بنفسها عنها. وستواجه، في الحالة الأولى، وضعا دولياً معادياً، وسيتناقص اهتمامه بها في الحالة الثانية، بسبب ما سيصيبها من تراجعٍ وضعف، علما أن العالم سيعتبرها، في حال التهاون مع الجبهة، تنظيمات إرهابية مثلها، وسيحول بينها وبين المشاركة في أي حل سياسي قادم، وسيزيل عنها صفة الاعتدال التي تؤهلها لأن تكون بديلاً محتملاً للنظام الأسدي.
لن تربح “الجبهة” سياسياً من تحالف الفصائل معها، لاستحالة قيام نظام إسلامي في بلادنا، بينما ستخسر الفصائل قوتها أو أجزاء منها، وهويتها التي تجعلها شريكاً دولياً مقبولاً، فماذا يبقى، في ضوء هذه الحسابات التي أعتقد أنها واقعية وعادلة، غير فكّ علاقة “الجبهة “بالقاعدة، والانتماء إلى ثورة الشعب وعلمها، وإلى الجيش الحر وفصائله، لا سيما أن هذه الخطوات تمكّنها من الحفاظ على قوتها الوازنة في مواجهة النظام، وتحمي قوى الجيش الحر والفصائل، وتقلّص فرص إضعاف الثورة اليوم والتخلص منها غداً، وتوفر على شعبنا تضحياتٍ جسيمة، لا عائد سياسياً أو عسكرياً يسوّغها، وتعيد إلى الحراك الشعبي هويته الأولى، المعادية للاستبداد ولنظامه الأسدي، وتؤسس وضعاً سيقلب ميزان القوى تدريجياً لصالح شعب سورية، وسيجبر الدولتين الكبريين على الحد من تلاعبهما بمصيره، وتصارعهما بدمائه، بينما سيبعث الأمل بالخلاص في نفوسٍ كثيرة أصابها اليأس من الانتصار والعودة إلى الوطن، وسيحفظ وحدة دولتنا ومجتمعنا، أو يجعل تهديدها ضرباً من العبث.
تقدّم التطورات فرصةً تاريخية “للجبهة”، إن اهتبلتها أنقذت شعبها وصانت حقوقه. عندئذٍ، سيدافع السوريون عنها بالأرواح والمهج، لأنها غلبت أمنهم ووجودهم وانتصار ثورتهم على حساباتها التنظيمية الضيقة.
هل يُقدم قادة “الجبهة” على ما يلزمهم واجبهم تجاه أهل الشام بفعله، وتنتظره منهم قطاعاتٌ واسعةٌ منهم، أم يركبون رؤوسهم، ويضعون حساباتٍ حزبيةً وتنظيميةً فوق مصالحهم وأمنهم، فيهلكوا ويهلك معهم عدد غفير من المقاتلين من أجل سورية، وأبرياء بلا عدد ثاروا من أجل الحرية والحياة والكرامة، ولم يثوروا لكي تقتلهم الحسابات الخاطئة والأنانيات التنظيمية والمشاريع الوهمية والمستحيلة.
المصدر : العربي الجديد