بعد أيام سيكون رئيس الحكومة تمّام سلام في نيويورك. وسيشارك في قمة الأمم المتحدة لمعالجة شؤون اللاجئين والمهجرين. علينا الخروج سلفاً من دائرة المفاجآت. فالقمة ستبحث علناً في توطين نحو مليوني لاجئ من أصل 21 مليوناً منتشرين في أكثر من بقعة في العالم، أهمها في منطقتنا على خلفية الحرب المستمرة في سوريا. ولبنان هو أكبر دولة لجوء ونزوح في العالم قياساً بمساحته وتعداد سكانه. في المعايير الأخرى السياسية والأمنية والإقتصادية والمالية، معطوفة على المؤشرات الاجتماعية، لنا أن نتخيل مصير الوطن وشعبه ومستقبله كياناً قابلاً للعيش في دولة متحللة.
نعم، هذا هو الوضع، وهدف القمة في تحديدها النهائي بلا تورية ولا استعارة. لم تعد هناك حاجة لتوسل قضية توطين النازحين من الإخوة السوريين لتحقيق مكاسب سياسية رخيصة في هذا الاتجاه أو ذاك. الكلام الذي صدر قبل فترة عن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، وأثار ضجة وقلق كبيرين كمثل دمج النازحين وتجنيسهم، والعودة الطوعية وغيرها، في صلب ورقة العمل التي أعدتها الأمم المتحدة إلى القمة المنتظرة. سبق لبان كي مون القول: “ينبغي أن تمنح الدول المستقبلة للاجئين وضعاً قانونياً. وأن تدرس أين ومتى وكيف تتيح لهم الفرصة ليصبحوا مواطنين بالتجنيس”. التجنيس أبعد من التوطين. هو اكتساب حقوق المواطنة الكاملة.
نظرية المؤامرة باتت من الفطنة. والسذاجة الإعتقاد في غيرها. ليست الأمم المتحدة والجمعية العامة من 193 دولة هما وراء التوطين لو حصل في لبنان. سيكون قراراً سياسياً من روسيا والولايات المتحدة والدول الثلاث الأخرى الدائمة العضوية، التي تلعب دوراً مفضوحاً في سوريا منذ بداية الحرب في 2011. ولا توجد لحظة سياسية ملائمة في لبنان لإمرار المشروع كمثل ما هي حالياً. كنا نتفرج على ما يطبخ لنا في الخارج، ووزير ديبلوماسيتنا منشغل يهدد اللبنانيين كل يوم بقطع الطرقات والعصيان للأتيان عنوة بقائده رئيساً للجمهورية. فتعطلت المؤسسات الدستورية، وافتقر الناس وفرغت خزانتهم واعتلّت صحتهم وبات الوطن كـ”شجرة ناجي العلي”، تموت لكن واقفة، عوداً بلا أوراق تخضوضر ولا ثمار تجنى. ويدرك من في الجمعية العامة وفي قمة اللاجئين حقيقة أوضاعنا، ويدركون أن رئيس الحكومة إنما أتى ليحرس علم بلاده على المنصة، وأن لا يد له ولا باع حتى في تشكيل الوفد المرافق.
والوضع بهذه الخطورة، فمن الحمق أن نسقط من جديد في مطب المساعدات والتمويل لزوم اللاجئين. المبدأ هو رفض مقولات التوطين والتجنيس. المطالبة بالوفاء بالتزامات الدول المانحة وزيادتها لا يستقيم والمبدأ. ودونه كل الإعتبارات الأخرى على بؤسنا المالي والاجتماعي. المطب الذي وقعنا به في ما يتعلق بالمساعدات المالية، كان الخلط بين ما هو إنساني وبين ما هو إنمائي. الإنساني وقاعدته الأساس عدم التعامل مع الإخوة النازحين من سوريا (أو من غيرها) بعنصرية وتمييز. والمساعدات في هذا الجانب طارئة لها طابع الغوث وتأمين احتياجات العيش والمأوى. المساعدات الإنمائية المربوطة بمشاريع من طبيعة مستديمة متوسطة الأجل وطويلة، يستحيل فصلها عن السياسات الإنمائية الداخلية وتبعاتها المالية والإقتصادية. ولا تعطى مفصولة عن “الإندماج والتوطين والتجنيس”. كل ما تقرر للبنان ووافق عليه كان واضحاً ومعلناً ويتصل بالشأن الإنمائي وفرص العمل والتعليم والبنى التحتية وخلافها. كان الأمر جلياً في تصريحات مسؤولي المصرف الدولي ووكالات الأمم المتحدة ذوات الصلة. وقد اعتبرت الأطراف المشار إليها أنها تساعد “الدولة المضيفة أيضاً لتحسين إداء الخدمات العامة والبنية التحيتة لإيجاد حلول لما بعد مرحلة الطوارىء”. المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تحدثت أكثر من مرة عن “إدماج اللاجئين وإشراكهم في عملية التنمية من خلال إعادة التوطين وزيادة اعتمادهم على أنفسهم”.
لن يحصل لبنان على مساعدات محسوسة إلاّ في المعنى المشار إليه. هكذا يعمل المصرف الدولي ووكالات الأمم المتحدة. لا نزال نتعاطى مع هذه القضية خبط عشواء. نريد المال والمزيد منه، ولا نريد التوطين والإندماج. رئيس الحكومة قال في مؤتمر لندن للدول المانحة في شباط/ فبراير 2016، إن “الأزمة السورية لن تنتهي سريعاً والمطلوب دعم طويل الأمد. وأن المساعدة المخصصة للتنمية هي السبيل الوحيد للتعامل مع الأزمة لخلق فرص العمل والتخفيف تدرجاً من تقديمات الطابع الخيري”. وفي الكلمة نفسها عاد إلى التذكير بأن “الحل هو في عودة النازحين إلى بلدهم”. من يقرر مساعدات النازحين إلى لبنان هم أنفسهم من يقرر مسار الحرب في سوريا. وهم على معرفة بأن لبنان لم يعد يتسع لمواطنيه. وعلى يقين بحجم موارده الإقتصادية ومؤشراته المالية والاجتماعية والإنسانية. ممثل مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة يقول إن مليون لبناني تحت خط الفقر أضيف إليهم نتيجة الحرب السورية 170 ألفاً.
لو توقفت الحرب السورية الآن وفقاً لأي سيناريو سياسي. من يعود من النازحين ومن لا يعود؟ بينهم “سوريون غير مفيدين من سوريا غير المفيدة”. هؤلاء هدمت منازلهم كلياً أو جزئياً. ويخشون العودة بسيناريو بقاء النظام على نفوذه. أو بنصف ما كان عليه يكفي ويزيد. أما “السوريون المفيدون من سوريا المفيدة” جماعة “بالروح بالدمّ”… فهم في المحنة سواء مع “غير المفيدين” وتنتظرهم جميعاً البطالة والفقر. وإعمار سوريا لو بدأ الآن هو الآخر، فيحتاج بتقديرات المؤسسات الدولية إلى عقدين من الزمن حداً أدنى. فكم يحتاج لبنان للخروج من المحنة؟ ماذا لو حصلت تطورات أمنية سلبية وسط هذا الزحام الديموغرافي والأجواء المشحونة والضيق الجاسم على صدور اللبنانيين؟
المصدر : المدن