تكرّرت، في العالم الذي يحكمه المال والسلاح، جرائم التطهير العرقي في أثناء الحروب وخلال الانتقالات السياسية… يركّز التاريخ، بتحيز تقليدي، على حالات إبادةٍ تعرّضت لها أقلية دينية أو عرقية من أكثرية مختلفة، ليس لسببٍ مذهبي أو إثني، إنما لغاياتٍ سياسية، تُثَبِّتُ حكماً ما في السلطة. وشهدت المناطق ذات التنوع الطائفي حالاتٍ أخرى، لا يمكن إدراجها تحت بند التطهير، بقدر ما هي تمدّد وإحلال متبادل، هدفه غربلةُ حاراتٍ أو أحياء صغيرة، لتأخذ لوناً أو عرقاً أو مذهباً موحّداً، في مقابل انتقال جزءٍ من سكانها إلى أحياء أخرى، ستأخذ المنحى نفسه، وهي عمليةٌ تبادليةٌ قد يشوبها عنف، ولا تخلو من إكراه، كما حدث بين السنة والشيعة في العراق بعد الاحتلال الأميركي، وكذلك في مدينة القامشلي السورية بين العرب والكرد على مر أعوام، وحدث على مستوى أقل (حارات) في بعض نواحي حمص، مع بدايات دخول السلاح، كمُعَامل ثابت في الثورة، قبل أن يتوسّع التغيير، ليبتلع اليوم كامل حي الوعر الذي ستنتقل إليه مليشياتٌ ذاتُ هوية مُلْتَبَسة، ستقطن حياً أفرغ من سكانه في صفقةٍ سمسرها الروس لصالح حليفهم الأسد.
بالنسبة لما يجري في داريا والمعضمية وبقية ريف دمشق الغربي، المزمع “تطهيره”، فهو حالة فريدة ذات شكل استيطاني، ستقوم خلالها أقلية مرفوضة لا تمتلك أي أساس ديمغرافي في المنطقة بعملية تهجيرٍ كبرى، في محاولةٍ لتثبيت نفسها ضمن حالةٍ أقرب ما تكون إلى احتلال، داخلي وخارجي في آن، سمحت له ظروف التخاذل وغضّ الطرف الدوليين بعقد صفقات ابتزاز مع سكان الأرض، وقدَّم السلاح الروسي، مع تشكيلةٍ واسعةٍ من المليشيات متعدّدة الجنسيات، يربط بينها المذهب، كلَّ المستلزمات المطلوبة لتأمين العملية، بمساعدة بروباغاندا إعلامية سخيفة ومكشوفة.
الحقيقة أن مدن ريف دمشق، في مجملها، “سنية” محاطةٌ ببحر من أخواتها، وقد ينفع التذكير بأن دمشق العاصمة المتاخمة تشاركها الانتماء، ما يصعِّب خطة “التطهير” المزمعة، أو يجعلها مستحيلة، وسيبدو تمسك القادمين الجدد بهذه المناطق مُكلفاً، بسبب ضحالة جذورهم فيها، وحاجتهم المستمرة إلى حمايةٍ عسكريةٍ، قد تحول الأجزاء “المحتلة” إلى ثكناتٍ يصعب العيش المدني فيها…
على الرغم من تمدّد سنوات الثورة لتتجاوز الخمس، وارتفاع معدلات الإحباط لدى طبقاتٍ متزايدة من الشعب السوري، إلا أن ما يجري يشكّك بامتلاك النظام استراتيجيةً ثابتة، يقوم بتنفيذها في سورية، فهو يرغب بالاستمرار حاكماً على أكبر مساحةٍ ممكنةٍ أطول فترةٍ متاحةٍ من دون رؤيةٍ بعيدة الأمد، تحقق له ذلك، يؤكد الأمر سلوكه المترنح وردّات فعل رئيسه المرتبكة التي تحفز سؤال “ماذا بعد؟”.
فالنظام يعي صعوبة إجراء عمليات “تطهير” شاملٍ في المناطق التي يسيطر عليها. مع ذلك، يقوم بمحاولاتٍ جزئيةٍ في هذا المجال تكلفه وحلفاءه الكثير، ومع حرج وضعه العسكري على الأرض، فهو يقاتل بشراسة في حلب التي تقع على تخوم دولته “المفيدة”، ولا يتوقف عن توريط أعدادٍ متزايدة من الأجانب في حربه، فيستدعي مليشياتٍ إضافيةٍ، كلما استشعر ضعفاً ميدانياً، في حين كانت استعانته بهم محدودةً بدايةً، وتوقفت على مساهمات حزب الله في منطقة القلمون وجانبٍ من الحدود السورية اللبنانية.
تغاضى الأسد عن فكرة أن لدى هذه المليشيات رؤى “مقدّسة” ترغب بفرضها على سكان مؤيدين، يؤمن قسم كبير منهم بعلمانية الدولة، فأدخلوا جميعاً في حالة تطبيعٍ مع فصامٍ مؤقتٍ، فرضه عليهم نظامهم، حيث قبلوا بعلمانيةٍ إعلاميةٍ موجودة فقط في خطابات الأسد، وأروقة فنادق جنيف ليباهي بها، أو يختبئ وراءها مندوب سورية في الأمم المتحدة في اجتماعات تخصّص لترتيب الوضع السوري، واستسلموا، بشكل فعلي، لعملية تغيير ذات جوهر مذهبي، تطمس هوياتهم. ويحاصر هذا التناقض نجاح خطة “الاحتلال” الراهنة المتكئة على قوةٍ ناريةٍ وتبريراتٍ واهيةٍ، لن تتمكّن من نسف حقائق تاريخية وجغرافية، قامت عليها الدولة السورية منذ بداية القرن.
المصدر : العربي الجديد