مقالات

وائل عصام – لماذا يصعب هجوم المعارضة المسلحة على الساحل ومناطق الأقليات؟

تثار من فترة نقاشات حول ضرورة الهجوم على معاقل النظام السوري في قرى جبال الساحل العلوية، كما يطرح البعض تساؤلات حول القتال مع النظام في المناطق السنية، ولماذا لا تنقل المعارك لمناطق الأقليات الموالية للأسد؟ أو لماذا لا تتوجه مباشرة للعاصمة دمشق؟

ورغم أن جانبا من هذه الأسئلة والنقاشات تتجاهل قدرا كبيرا من المنطلقات البديهية التي يفترض أنها نضجت في ذهن المراقب بعد سنوات من هذا النزاع، إلا أن حجم التفاعل الشعبي معها يجعلها نقاطا جدلية اليوم.

ولعله من المفيد البدء طرح تساؤل مقابل حول القتال في المناطق السنية، ينطلق من بديهية مناظرة.. كالتساؤل عن سبب انطلاق الثورة في المناطق السنية ؟ فاذا كان القتال يحسب ضررا لهذه المناطق فالاولى ألا تنطلق منها مظاهرات سلمية منذ البداية تتعرض للقمع على يد قوات النظام.

هكذا اذن بدأت القصة، مظاهرات من مناطق سنية، ثم مجموعات مسلحة محلية تحمي المظاهرات في الأحياء والقرى، ثم فصائل مسلحة تقاتل قوات النظام لاخراجه تماما من تلك المعاقل المتمردة على قواته وسلطته، فالمعارضة المسلحة بمختلف تشكيلاتها لا يمكن أن تنطلق بداية الا من مناطق تتوافر فيها مواطئ قدم اولى، أي كتلة سكانية مؤيدة حاضنة وارض، وهي شروط تنطبق على كل حالات الحرب الاهلية وحروب المتمردين والثوار ضد الجيوش النظامية، وفي الحالة السورية فإنه لا يمكن لفصائل المعارضة المسلحة الانطلاق لمواجهة النظام إلا من القرى والاحياء السنية، وعندها ستقع المواجهة مع قوات النظام التي تستند هي الاخرى لدعم من مناطق وقرى وتجمعات سكانية موالية له أو من الأقليات، وهنا تتضح أن المواجهة في جوهرها أهلية طائفية مناطقية وليست مجرد نزاع بين سلطة وشعب على الحكومة والعاصمة.

وهكذا فإن المناطق والقرى التي نجحت في طرد قوات النظام حققت اولى الخطوات والاهداف، وهي تحرير نفسها بداية، وتحصين حاضنتها من أجل أن توفر دعما جديدا للقوات المسلحة المعارضة للنظام للتقدم اكثر، ولكنها لم تنجح في هذا الهدف إلا بعد المواجهة الاولى مع قوات النظام في المناطق السنية، وكما قلنا لا يمكن للمعارضة المسلحة بمختلف تشكيلاتها الانطلاق نحو مراكز النظام الاخرى إن كانت في الساحل أو دمشق قبل البدء بمناطقها اولا، لما يقتضيه حال الدعم اللوجستي والإمداد البشري الذي لا يتوفر الا في هذه المعاقل الخالصة، ولكن المشكلة أن معظم المراكز السنية السيادية في المدن، ما زالت إما في حالة كر وفر مع النظام، وإما تحت سيطرة النظام في الاغلب كحمص وحماة وحلب ودرعا، ولأن أدلب والرقة مثلا كنقطتي ارتكاز ومعاقل وازنة تحت سيطرة قوات معارضة، سنجد أن محيطهما من قرى ما زال متماسكا نسبيا بيد تلك القوى المسلحة، لما تمثله تلك المدن من ثقل مؤثر في محيطها بالدعم والإمداد جغرافيا وسكانيا، وهنا نعود لقضية الهجوم على الساحل، ونلاحظ أن القوة المهاجمة الاساسية التي تحاول كل مرة مهاجمة قرى الساحل تأتي من أدلب أو محيطها من القرى أو ريفي حماة واللاذقية، بعد أن تم تحريرها من قوات النظام اولا، وهكذا فإن التقدم نحو قرى الساحل الموالية للنظام يستلزم اولا السيطرة على مزيد من القرى في سهل الغاب وريفي حماة واللاذقية، وهي سيطرة يصعب أن تتم للمعارضة في ضوء توازن القوى الحالي، الذي يجعل هذه المعارك في مجملها كر وفر، والقضية الاهم هنا، أن السيطرة على القرى والمناطق السكانية غير الموالية للثورة أو المؤيدة للنظام بتركيبتها الاقلوية، قضية صعبة للغاية من الناحية العسكرية، ولا ننسى أن صلاح الدين الايوبي نفسه تحاشى قرى العلويبن المنيعة في الجبال، واكتفى باتفاق هدنة معهم، كما تنقل المصادر التاريخية.

صحيح أن العلويين لم يكونوا حكاما لسوريا يومها ومناطقهم ليست بذات الاهمية بالحرب، لكن الصحيح ايضا أن مناطقهم منيعة وتكلفة السيطرة عليها مكلفة، وهم اختاروا الانعزال فيها منذ البداية لهذا الامر.

ولعل من أهم الاستنتاجات التي يفترض بالمراقب لحروب المنطقة الاهلية الاقرار بها، بدءا من حرب لبنان الاهلية، لحرب العراق، انه كما توفر المناطق السنية المعارضة للنظام دعما للمسلحين، فإن المناطق الموالية للنظام توفر دعما لقوات النظام، بل انها هي عصب النظام، ومعظمها شكلت ميليشيات شعبية من ابنائها للقتال بجانب النظام، ولحماية قراها بداية، وهكذا فان هذه المناطق تقاتل بشراسة لانها تدافع بعقيدتها عن بيوت ابنائها، وتتلقى دعما عسكريا ايضا من النظام يؤمن لها حدا معقولا من التوازن العسكري، ولهذا مثلا، نجحت قرى شيعية كنبل والزهراء، وكفريا والفرعة في الصمود لسنوات في محيط سني بالكامل، ليس لان الفصائل مرتهنة للممول كما يقال، في اسطوانة كثيرا ما تترد لانها تعطي تفسيرا سهلا وساذجا لمن لا يريد البحث في الأسباب الأعمق، بدون أن ننكر أن القوى الداعمة لبعض فصائل الحر لا تبدي حماسة لاقتحام تلك المناطق، لكن وخلال معايشتنا لاشهر طويلة لتلك القرى، ومراقبة يوميات الاشتباكات في ريف حلب الشمالي، لم يكن هناك ما يمنع تلك الفصائل حقيقة من التقدم سوى الخسائر الكبيرة التي ستلحق بها، ولعل ما يوضح عدم وجود مانع حقيقي خارجي هو أن هذه الفصائل كلواء أحرار سوريا في عندان مثلا، كانت تقصف بشكل شبه يومي تقريبا في بعض الفترات قرى نبل والزهراء وتوقع عشرات القتلى والجرحى في تلك القرى، وأحكمت لفترات حصارا خانقا عليها، كما خطف العشرات من اهالي تلك القرى، وفي مرة كنت اتحدث لأحد قيادات الشيعة واتذكر أن اسمه السيد علي الزم كان يشكو من خطف العشرات من ابناء القرية والقصف المستمر، إلى أن خطف هو نفسه! فهل كان الداعمون يطلبون من فصائل الحر الخطف والقصف واستهداف الطائرات المحملة بالاغذية ويمنعونهم من اقتحامها مثلا؟

وعندما توفرت إمكانية لاقتحام تلك القرى حصل الاقتحام لكنه فشل ايضا، الاقتحام قادته النصرة بمشاركة فصائل اخرى من الجيش الحر في ريف حلب والمدينة كالزنكي وغيره من المجموعات المدعومة خارجيا، ورغم أن النصرة لا تتلقى دعما خارجيا ولا تتلقى تعليمات خارجية بعدم المساس بتلك القرى كما يشاع، إلا انها فشلت ايضا في اقتحامها في تلك العملية الكبرى بعد تفجير نحو سبع سيارات مفخخة، واقتحام اطراف البلدتين، قبل أن يقتل قيادي ميداني من النصرة في هذا الهجوم ويتوقف، والامر نفسه حصل في الفوعة، مفخخات وهجوم كبير لاكثر من مرة لم ينجح باقتحامهم، فسكان تلك القرى كما قلنا يقاتلون بعقيدتهم الخاصة الدينية ويدافعون عن بيوتهم، فيحولون كل بيت لموقع عسكري، وهنا يقفز السؤال الذي يمنع أو يدفع معظم الفصائل لتأجيل أو الغاء عمليات اقتحام مثل تلك القرى، وهو لماذا سيقتل العشرات من شباب القرى السنية من اجل تحرير قرية شيعية لا تريد الانضمام للثورة؟

ولماذا سيضحي شباب القرى والمدن السنية بدمائهم للهجوم على قرى الاخرين من الاقليات بينما بعض قراهم السنية ومعظم مدنهم الكبرى بيد النظام؟ أيهما أولى بالتحرير إذن، قريتي وبيتي ام قرى الاخرين؟ أما من يعتقد أن ضرب معاقل النظام مباشرة في الساحل هو الانسب، فكنا قلنا إن ذلك يستلزم خريطة طريق، لتحرير القرى والمواقع المؤدية إليها، كقمة النبي يونس مثلا، وإلا فلن يهبط المحررون من السماء! ويبقى أن نقول انه حتى في حال السيطرة على قرى ومناطق للاقليات، وطبعا هذا لا يتم عمليا الا بعد تحرير معظم المناطق السنية واسقاط النظام في المحافظات، فان البقاء فيها وحكمها مكلف جدا، والامر بالنسبة لدمشق لا يختلف كثيرا، ورغم انها مدينة سنية، الا أن النظام حولها ثكنة عسكرية، ونشر بها تجمعات علوية كثيرة، والوصول ايضا لدمشق يتطلب السيطرة مسبقا على محيط من الاراضي والقرى والمناطق التي يصلح أن توفر دعما للقوى المهاجمة، وريف دمشق بوضعه المحاصر لا يمكن أن ينجح بلعب هذا الدور، ومدينة بحجم دمشق ( سياسيا وامنيا) تحتاج للسيطرة على معاقل ارتكازية كبرى قبل تحريرها، تؤمن امدادا ودعما، وهذا لا يمكن أن يحصل قبل فك حصار ريف دمشق ووصله بدرعا أو القلمون أو البادية الشرقية، وهنا نعود للنقطة نفسها، أي أن معركة دمشق تتطلب معارك اخرى تسبقها في محيطها، تبدأ من ريف درعا أو القلمون أو ريف حمص وتدمر، ولان النظام يفهم تماما هذه القواعد اللوجستية، فإنه كان دائما يهتم بخنق ريف دمشق تماما، وخنق كل ما يمكن أن يمد ريف دمشق من ريف درعا جنوبا وصولا إلى تأمين طريق دمشق حمص شمالا بإبعاد تنظيم «الدولة» عن القريتين وتدمر، ولأن النظام وحلفاءه يعيان تماما أصول الحرب الاهلية المناطقية، فهم يقاتلون في كل منطقة بسوريا كما لو انها العاصمة، مربع محاصر في دير الزور، قاعدة جوية في كويريس، سجن مركزي في ريف حلب، ولم يترك هذه المواقع لانها ليست دمشق، بل على العكس يعرف أن حماية دمشق تبدأ بحماية تلك المواقع، وان انهيارها يعني تتابع الانهيارات بالمحافظات وصولا لدمشق ومحيطها..

وحتى لو سقطت دمشق فان طبائع النزاعات الاهلية تقول إن الحرب ستستمر في كل منطقة مختلطة لان العاصمة هي عاصمة الدولة، لكن الحرب لم تعد بين شعب ودولة، بل بين عدة شعوب داخل الدولة، فلا معنى حقيقيا بقي للعاصمة، بل أن السنة يرون أن حمص وحماة أصبحتا قيمة تعادل دمشق. وها هي طرابلس سقطت بيد الثوار الليبيين، ولكن المعارك حول سرت وبني وليد استمرت لعدة اشهر بعد سقوط العاصمة، وها هي المعارك تعود الان في سرت وبنغازي بين المتصارعين بعد انتهاء دولة القذافي، لأن جوهر الصراع أهلي قبلي في ليبيا، وهو أهلي طائفي في العراق وسوريا، ولا تمثل العواصم فيه أهمية وحيدة كمركز للدولة، بل إن النزاع على عواصم ومراكز المناطق والمحافظات الاخرى قد تصبح محور الحرب إذ باتت تمثل مكسبا وازنا يعضد من قوة احد اطراف النزاع القبلية أو الطائفية. وفي الحرب الاهلية في لبنان وهو بلد صغير قياسا بسوريا، كانت المعارك بين الطوائف في مناطقها خارج العاصمة بيروت لا تقل ضراوة عنها في بيروت، في طرابلس زغرتا والجبل وفي مخيمات الفلسطينيين بتل الزعتر والقرى المسيحية كالدامور وغيرها. ولعل جمهور كل الفصائل بلا استثناء مولع بهذه الاتهامات، بالعمالة والارتباط بالممول، وهي لا تخلو من صحة، لكنها عامل واحد ولا يصلح أن تكون عاملا اساسيا في تبرير فشل اقتحام او السيطرة على مناطق النظام والاقليات، ببساطة الطريق اليها ليس مسافة السكة، وحتى جمهور اكثر التنظيمات قوة عسكرية وهو تنظيم «الدولة» وقعوا في توجيه هذه الاتهامات للنصرة، بخصوص كفريا والفوعة، رغم أن مطار كويريس ظل محاصرا لاكثر من عامين من قبل تنظيم «الدولة» وتعرض لهجمات كاسحة، ومع ذلك فشلت عمليات اقتحامه وبوجود نحو مئتي جندي فقط، وهو ما يحصل الان في دير الزور ومواقع النظام المحاصرة ..

اعتقد أن هذه الاموريفترض ألا تبقى محل نقاش بعد خمس سنوات من مراقبة يوميات هذا النزاع الاهلي المسلح، رغم أن احد الاسباب التي تجعلها محل نقاش هو ما يقوله القادة الميدانيون انفسهم للجمهور، من تبريرات لعدم قدرتهم على تحقيق تقدم ميداني ما، فيلجأون لتكرار الاسطوانات الشعبوية السهلة التي تروق للجمهور..

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى