مقالات

مدى الفاتح – روسيا وإيران: جدل الواقع والتاريخ

منذ قرون كانت العلاقة بين إيران وروسيا تقوم على التنافس الإقليمي وفي غالب الأحيان على خضوع الأولى لنفوذ الثانية، كما كان الحال في فترة ازدهار روسيا القيصرية، التي استطاعت قضم أجزاء واسعة من الشمال الإيراني.

إبان الحرب العالمية الثانية غزا السوفييت إيران ثم ناصروا الاحتلال البريطاني من أجل قطع الطريق على ألمانيا النازية ولم يخرج الطرفان، خاصة السوفييت، إلا في عام 1946 بعد أن ضمن الاتحاد السوفييتي إمدادات ثابتة من النفط. كان الروس يحملون على الدوام نظرة متناقضة للجار الإيراني، فهم من ناحية ينظرون إلى الفرس بتعالٍ، ومن ناحية أخرى يجبرون على الحفاظ بعلاقة جيدة معهم بحكم الارتباط الجغرافي، ولذلك يصعب وصف العلاقة التاريخية بين الطرفين بالجيدة، كما يصعب وصفها بالسيئة، وفي الواقع فإن ما ينطبق عليهما ينطبق على الكثير من العلاقات بين دول العالم، فالمعروف أن العواطف مثل الحب والكراهية لا مكان لها في العلاقات بين الدول بل تبقى المصالح هي اللغة الأهم.

لنتذكر على سبيل المثال أن القرن العشرين شهد محاولات من قبل إيران لتجاوز التنافس السياسي مع روسيا السوفييتية من أجل خلق شراكة تجارية، رغم أن طهران كانت آنذاك جزءاً من المعسكر الغربي، وهي اللعبة ذاتها التي كررتها إيران بمهارة في السنوات الأخيرة مع منافستها تركيا التي اختلفت معها بشأن ملفات إقليمية مهمة لكنها، أي تلك الملفات المعقدة وعلى رأسها الأزمة السورية، لم تمنع مساعي جمهورية الولي الفقيه لاستمالة أنقرة عبر إقناعها بأن الخلاف السياسي يجب ألا يعني بالضرورة الدخول في حرب ساخنة أو حتى باردة، وأن من المفيد التركيز على المصالح الاستراتيجية الدائمة وعلى رأسها الاقتصاد.

لا يمكن فصل التاريخ عن الحاضر، فالواضح أن لإيران مهارة تحسد عليها في اللعب الخطر بين الحبال السياسية فهي تراهن الآن على موسكو، لكنها في الوقت ذاته لا تريد أن تخسر الغرب، كما أنها تظهر من جهة ثالثة رغبتها في علاقات طبيعية حتى مع دول الخليج العربية. هذا يذكر بما كان يحدث في الستينيات حينما كانت إيران جزءاً أصيلاً من المعسكر الرأسمالي، لكن بدون أن يمنعها هذا من التفاوض مع الاتحاد السوفييتي حول الشراكة في مجال التسلح. إن دراسة تلك الفترة كفيلة بأن ترد على أصحاب المنظور العاطفي الذين يرون الأشياء ضمن لونين فقط، فهل يعلم أولئك أن الاتحاد السوفييتي راعي الاشتراكية والشيوعية حول العالم وقف مع الشاه الذي كان يعتبر رمزاً أصيلاً من رموز المعسكر المقابل ضد حزب «توده» اليساري؟

نعم، لقد غلّبت موسكو حينها مصلحة البلاد على مصلحة الايديولوجيا، فساندت توجهات الشاه وعلى رأسها ما سمي آنذاك بالثورة البيضاء، ما سحب البساط عن حزبها الحليف وأفقده الدعم والسند، وهو ما شكّل عليه ضغطاً أضعفه وحوّله إلى هامش الحياة السياسية. لقد ضحّت روسيا بالايديولوجيا طمعاً في توقيع المزيد من صفقات السلاح مع الإيرانيين وهو ما حدث بالفعل ونتج عنه استفادة الطرف الإيراني من التطور التقني السوفييتي في هذا المجال مقابل تمتع روسيا بصادرات الغاز. بالمقابل فإن هذه العلاقة لم تؤثر على علاقة طهران الموازية بالأمريكيين ولم تمنع التحصل على السلاح الأمريكي النوعي، بمعنى أن هذا لم يؤثر على علاقة إيران بالغرب كما تمنى السوفييت، بل على العكس أراد الأمريكيون استعادة إيران كحليف قوي عبر مدها بسلاح أكثر تطوراً. هذه العلاقة استمرت بعد الثورة الإيرانية، وفي حين شغل بعض المحللين السياسيين أنفسهم بفهم إمكانية الارتباط الفلسفي بين «الإسلامية» و»الماركسية» كان الأمر بالنسبة للطرفين أقل تعقيداً بكثير حيث تم الاكتفاء بالنظر إلى القواسم المشتركة الكثيرة التي على رأسها ابتعاد طهران أخيراً عن المحور الأمريكي المنافس. وإذا أعدنا قراءة فصول الحرب العراقية الإيرانية فسوف نتفاجأ حين نجد أن موقف موسكو منها كان أقرب لدعم إيران على حساب العراق الذي كان يعد حليفاً مقرباً لها.

كان الاتحاد السوفييتي ينظر لإيران كرهان مستقبلي وقوة ناهضة، لذلك أراد أن يمد لها أيادي لا تنسى عبر تسليحها بشكل غير مباشر عبر دول الكتلة الشرقية، في وقت كان يحظر فيه دعم القوى المتحاربة، لكن الفضيحة الأمريكية الشهيرة التي سميت بـ»إيران غيت» جاءت لتؤكد مرة أخرى أن إيران لا تضع بيضها أبداً في سلة واحدة ولا ترهن خياراتها جميعاً لصالح حليف واحد مهما عظم.

السياسة الإيرانية تبدو أقرب لسياسة التمويه، وكأنها تستند حتى في علاقاتها الدولية لمذهب «التقية»، فالحقبة التي شهدت طرد دبلوماسيين روس من طهران كانت الحقبة التي شهدت فيها العلاقات بين البلدين تطوراً. بعد نهاية الحرب مع العراق ساهم الاتحاد السوفييتي في تحقيق طموح إيران بالحفاظ على تفوق نوعي على صعيد السلاح والعتاد على جيرانها العرب، خاصة العراق الذي ظل يشكل لها هاجساً وتهديداً وجودياً. من العبارات المتكررة في مجال دراسة العلاقة بين روسيا وإيران هو وصف تلك العلاقة بالبرود بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتسلم الرئيس بوريس يلتسن، الذي كان يبدو مقرباً من الولايات المتحدة، للسلطة هناك. ربما يكون بروداً على صعيد الإقلال من العبارات الحميمة بين الطرفين، لكن علينا ألا ننسى أن عام 1992 شهد اتفاق التعاون الاستراتيجي لبناء مفاعل بوشهر النووي!

أما بعد تسلم فلاديمير بوتين مقاليد الحكم في روسيا فقد دخلت الأخيرة مرحلة جديدة مختلفة وصفها البعض بـ»البوتينية» على غرار تسمية روسيا بالقيصرية والشيوعية. أهم سمات هذه المرحلة كان طغيان الجانب الأمني على السياسات الروسية، بسبب سيطرة ذلك الهاجس على الزعيم الجديد الذي لم يخف فخره بعمله السابق في المخابرات السوفييتية. ركز بوتين على معالجة التحديات الأمنية وأهمها نزوع الدول والأقاليم ذات الغالبية المسلمة للانفصال أو الحكم الذاتي، ورغم الخلاف مع الولايات المتحدة إلا أنه استفاد بقوة من لافتة الحرب ضد الإرهاب من أجل استخدامها كواجهة لمكافحة جميع المناوئين لسيطرة موسكو والراغبين في الخروج من تحت سيطرتها حتى من غير المناطق الإسلامية كأوكرانيا وجورجيا. لكن تحدي بوتين الأكبر كان التحركات السياسية في الجمهوريات ذات الغالبية المسلمة التي سعت بقوة لتحقيق الاستقلال أسوة بالجمهوريات السوفييتية الأخرى. تحدٍ تعلق بالدرجة الأولى بالصحوة الإسلامية السنية التي انبعثت بعد سنوات من السبات والتغييب الإجباري في عقود الإلحاد السوفييتي. صحوة شكّلت وقود هذه التحركات الانفصالية التحررية. من هنا اكتسبت العلاقة مع إيران أهمية كبرى فهي تتشارك مع روسيا الهواجس نفسها من قيام كيانات سنية قوية في الجوار، كما أنها دولة لا يمكن تجاوزها لخبرتها الطويلة في الصراع ولعقيدة قادتها المنحرفة التي تجعل غير المسلم أقرب إليها من المسلم السني وهو ما ظهر في تعاونها غير المحدود مع الولايات المتحدة إثر وبعد غزوها للعراق وأفغانستان ثم بتدخلها الإجرامي الأخير في سوريا.

وجود هواجس مشتركة وأعداء مشتركين لا يعني بالضرورة تماهياً بنسبة مئة بالمئة بين الجانبين، لكنه يعني أن هذه العلاقة الاستراتيجية نجحت في تأجيل المواضيع المختلف عليها حتى لا تؤثر على التفاهمات الكبرى. لنتذكّر أن روسيا لم تعترض على امتلاك إيران للقوة النووية، بل ظلت على الدوام داعمة للخيارات الإيرانية في المحافل الدولية، كما أنها كانت أهم من وقف ضد المشروعات التي كانت تهدف لتوجيه ضربة لإيران أو حتى فرض عقوبات قاسية عليها. لكن هذه العلاقة، وكأي علاقة بين دولتين متنافستين، لم تكن على وتيرة واحدة، حيث حدث عام 2005 أن اقترحت روسيا تخصيب اليورانيوم لإيران داخل الأراضي الروسية ولسبب ما رفضت ذلك طهران، ربما خشية من الارتهان الكامل لموسكو، والذي حدث أن دخلت العلاقة بين البلدين فترة جمود كانت إيران هي المتأثر الأكبر بها، حيث ظهر الغضب الروسي في دعمها لقرارات أممية ضد صديقتها إيران خلال الأعوام 2006-2011، كما تلكأت في تنفيذ اتفاقات الدعم التقني للمفاعل الإيراني قبل أن تبدو أخيراً غير متحمسة لمنح إيران الوقود النووي. كل هذا لم يتغير، لحسن حظ طهران، إلا بتغير المشهد في سوريا وظهور احتياج موسكو لدعم طهران من أجل إبقاء بشار الأسد كحليف مشترك.

النظرة التاريخية تظل مهمة لمن يريد أن يدرس واقع العلاقات بين روسيا وإيران ولعل هذا المقال، على ما فيه من إخلال، يكون قد قدّم مادة يمكن البناء عليها لمن يريد الإجابة عن سؤال الساعة وهو: هل سيكون التحالف الناشئ بين روسيا وإيران مرحلياً ومتعلقاً بالقضية السورية فقط، أم أنه سيتسع ليشمل نطاقاً جغرافياً أكبر، خاصة مع عدم وجود أي عوائق مادية تحول دون ذلك؟

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى