بعد مداخلة ميلودراميّة قام بها المندوب المصري في الأمم المتحدة عمرو أبو العطا انتقد فيها كافة المواقف الدولية حول سوريا وقال فيها إن فاتورة المأساة لم يعد يتحملها سوى المدنيين (وهو أمر شاركه فيه، في الحقيقة، كل المندوبين بمن فيهم مندوبا روسيا والنظام السوري!) وإنه صار لازما تجنّب المصالح الضيّقة التي تحكمت خلال السنوات الماضية بمصير السوريين، فاجأ أبو العطا المجتمعين، كما فاجأ المشاهدين الذين كانوا يتابعون الجلسة على الفضائيات، وبينهم الكثير جدّاً من المدنيين السوريين أنفسهم، بالتصويت، ليس على قرار فرنسا، فحسب (الذي قامت روسيا باستخدام حق «الفيتو» لنقضه ورفضته فنزويلا معها)، بل كذلك على قرار روسيا الذي لم تؤيّده أي دولة أخرى غير مصر!
وزارة الخارجية المصريّة دافعت طبعاً عن موقف بلادها في مجلس الأمن بالقول إنها صوّتت بناء على محتوى القرارين وليس من منطلق المزايدات السياسية «التي أصبحت تعوق عمل مجلس الأمن».
سابقة الموقف المصريّ استدعت بدورها سابقة عربيّة جديدة حيث قامت المملكة العربية السعودية بشخص مندوبها لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي بانتقاد الموقف المصري واصفة إيّاه بـ«المؤلم» خصوصاً بعد مقارنته بالموقفين السنغالي والماليزي اللذين كانا أقرب للموقف التوافقي العربي، كما وصفت مندوبة قطر في الأمم المتحدة علياء آل ثاني الموقف المصري بـ«المؤسف»، ووصف المندوبان، السعودي والقطرية، القرار الروسيّ بـ«المهزلة».
كان يمكن الاتفاق مع اعتبار القاهرة موافقتها على القرارين «خارج المزايدات السياسية» حقّاً (ودعك من التباكي المملّ حول المدنيين الذي شاركت فيه روسيّا وغيرها من التماسيح والضواري) لو لم يكن هو أيضاً شكلاً مرتفعاً من المزايدة السياسية المفهومة الدوافع.
كان واضحا، بداية، أن المقصود الأول من القرار الروسي هو إفشال القرار الفرنسي، من ناحية، وفرض السرديّة الروسيّة لما يجري في سوريا باعتباره «مكافحة للإرهاب» يهون في سبيله تدمير المدن على رؤوس ساكنيها، وبالتالي فإن موافقة القاهرة على القرار الفرنسي ثم إتباع ذلك بموافقتها على القرار الروسي (المصنّع أساساً لإحباط القرار الأول) هو مزايدة سياسية مفهومة الأهداف، وهي تتعلّق طبعاً بالمماحكات الجارية بين القاهرة وموسكو حول إعادة السيّاح الروس إلى مصر، وبالتالي فالموقف كان دفعة سياسيّة كبرى مقدّماً تخصم من حساب تلك المماحكات.
لا يمكن، إحقاقاً للحقّ، إنكار جانب «مبدئي» في الموقف المصريّ، وهو يتعلّق أساساً برؤية النظام في القاهرة للأحداث في سوريا، وهي رؤية تجعله أقرب إلى روسيا والنظام السوري منه إلى «حلفائه» العرب الذين يخوضون صراع وجود مع إيران على كافة أنحاء الأرض العربية.
تُسهم عدّة عناصر سياسية وجغرافيّة في تخديم هذا الموقف المصري الذي لعب ورقة «الحلفاء العرب» (الذين موّل بعضهم عملية إسقاط سلطة الرئيس الأسبق محمد مرسي وساهم بعد ذلك، سياسيا وماليّاً، في توطيد حكم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي) ولكنّه لعب أيضاً ورقة خصومهم الروس والإيرانيين.
أهم هذه العناصر هو موقف روسيا وإيران الواضح ضد تيار «الإسلام السياسي» وعلى رأسه جماعة «الإخوان المسلمين»، في مصر كما في سوريا وباقي أنحاء العالم، وكانت المشاركة المصريّة المركزية في مؤتمر «غروزني» في الشيشان لتحديد من هم المسلمون «السنّة»، والذي أخرج المذهب الوهابي (وهو مذهب الدولة السعودية)، والإخوان المسلمين، من قائمة الإسلام السنّي، تعبيراً فاقعاً لتوجّه يجمع بين أعداء روسيا ومصر في إطار «مذهبيّ» جديد.
بعد ذلك يمكن أن نرى أن الاستراتيجية الروسية في سوريا وليبيا تتطابق مع تطلّعات القاهرة لإيجاد موطئ قدم لها في هذا الحلف الغريب الذي يوحّدها مع حلفاء تجمعهم الجلافة والقسوة والاستهتار بمصائر المنطقة العربية.
وهذا يسمّى، حسب مندوب مصر في الأمم المتحدة، «تجنّب المصالح الضيقة»!
المصدر : القدس العربي