منذ كتابة وثيقة حقوق الإنسان، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والدول الغربية تتغنى بحقوق الإنسان وبدفاعها عنها، بوصفها حقوقاً طبيعية للبشر، يجب الحصول عليها في كل مكان. لكن عند كل اختبار حقيقي لهذه السردية الغربية الكبرى، وادعاءاتها في حماية حقوق الإنسان على مستوى العالم غير الغربي، نصطدم بحقيقة جزئية هذه السردية، وانطباقها على بشر أكثر من بشر، ما جعل التجارب الكثيرة التي مر بها العالم منذ الحرب العالمية الثانية تضع هذه القضية في دائرة الشك في عموميتها على مستوى العالم، ما يجعل حقوق الإنسان مسألةً فيها نظر، بعد كل الحبر الذي سال، والخطابات التي دبجت للدفاع عن هذه القضية.
تشكل سورية اليوم اختباراً جديداً لأخلاقيات هذا العالم، ولسردية حقوق الإنسان تحديداً، التي سقطت في الاختبار السوري حتى اليوم. وكان هذا السقوط على مستويين، ما زالا يفقآن عين المجتمع الدولي، والدول الغربية ومقولاتها الكبرى عن حقوق الإنسان. الأول، الحماية المباشرة وغير المباشرة للنظام الذي ارتكب جرائم حربٍ معلنة ضد شعبه، ما زالت مستمرة في عامها السادس. الثاني، العلاج الأوروبي لتدفق اللاجئين على الدول الأوروبية، والتي كان ذروتها في العام 2015 كأثر ارتدادي للوحشية التي تعيشها سورية منذ سنوات.
في المستوى الأول: المذبحة السورية مستمرة، على الرغم من كل الإدانات التي تعرّض لها سلوك النظام، إلا أنه عملياً لم يتعرّض لأية مساءلة، يشعر بها بأي تهديد جدّي من المجتمع الدولي، بشأن عقابه على جرائم الحرب التي يرتكبها بحق شعبه. فعدا كلام الإدانة، كل شيء يسير بالنسبة للنظام السوري، كأن شيئاً لم يكن، ماضٍ في تدمير المدن السورية، وماضٍ في قتل السوريين في السجون خارج القانون، وماضٍ في اقتلاعهم من بلداتهم، بشكل كامل على النموذج الذي كرّسه في داريا في الغوطة الشرقية، والتي لم يبقِ أي شخص من سكانها، لا رجل ولا امرأة ولا طفل. ليس صحيحاً أن العالم لا يستطيع إيجاد حل للصراع الدموي في سورية، بل لا أحد يرغب في إيجاد مثل هذا الحل.
على العكس، من الواضح أن جزءاً من العالم المتحضر الذي يدّعي حقوق الإنسان يتلاعب بالصراع الدموي في سورية، لأسبابٍ تتعلق بمصالحه في المنطقة. وبالتالي، يبدو الصراع الدموي في سورية أنه سيستمر طويلاً، والسبب أن لا أحد من الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لها مصلحة في حل هذا الصراع، وبالتالي، تتراجع مسألة حقوق الإنسان أمام المصالح من جهة، وأمام الرغبات بعدم دفع أي ثمنٍ مهما كان، لوضع حد لهذا الصراع من جهة أخرى. وبذلك، تتم استعادة كل مفاهيم المركزية الأوروبية، والتي تتضمن معايير عنصرية، تحاول أن تتخفى في كلام حداثي، للدفاع عن سياسات العار التي تديرها هذه الدول، للحفاظ على مصالحها. ففي ظل انخراط روسيا مباشرةً في المجزرة الدموية في سورية، زاد الشلل الغربي تجاه النظام السوري خصوصاً، وتجاه الصراع عموماً، وبقيت المحرقة السورية تحصد السوريين، والعالم يتفرّج، وهو يحمل على أكتافه ترسانة حقوق الإنسان الكاذبة، والتي هي سرديةٌ خاصةٌ في نطاق جغرافي معين، وليست شاملةً كل العالم.
المستوى الثاني، كان الهجرة الكثيفة التي توجهت إلى أوروبا، في النصف الثاني من عام 2015، بعد سياسة الباب المفتوح التي أطلقتها المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل. اُعتبر ذلك نوعاً من التعويض عن تقصير الدول الأوروبية في سياستها تجاه المذبحة السورية. لكن الأعداد التي وصلت، اعتبرتها هذه الدول بمثابة طوفانٍ بشريٍّ يهدّد رفاهية هذه البلدان وأمنها. سرعان ما اعتمدت سياساتٍ عنصرية، من أجل كسر هذا الطوفان، ولوقف هذه الموجة من اللاجئين، و”العنصرية” أقل ما يقال في سياسات الدول الأوروبية تجاه الهجرة، فلم تتورّع هذه الدول من توقيع اتفاق العار مع تركيا، وأن تكون واحدةً من أكثر تعبيراته عنصريةً، هي إعادة كل لاجئ يحاول الفرار من المذبحة السورية، ويفكر في الوصول إلى أوروبا إلى المكان الذي جاء منه، أي إعادته من اليونان، المعبر الرئيسي لحركة اللجوء، من حيث أتى، إلى تركيا، مقابل مساعدات مالية كبيرة وتسهيلاتٍ لدخول الأتراك إلى دول الاتحاد الأوروبي.
ولم تكتفِ هذه الدول بهذا الاتفاق، بل صمتت عن جدار الصد العنصري الذي بنته دول شرق أوروبا ووسطها في وجه اللاجئين (في السابق، اعتبرت هذه الدول جدار برلين أيام الحرب البادرة مخالفاً لحقوق الإنسان، ودعت إلى إزالته، اليوم الجدار العنصري وسط أوروبا، ليس كذلك من وجهة نظر المصالح الأوروبية). بعد هذه الإجراءات، بات الوصول إلى الدول الأوروبية المستهدفة باللجوء شبه مستحيل، حيث تراجعت أعداد اللاجئين الواصلين إلى أوروبا، بحيث أن أعداد الواصلين هذا العام، لم تتجاوز العشرة بالمئة من الأعداد التي وصلت في 2015. من الواضح أن الدول التي طالما تسامحت في موضوع الهجرة غير الشرعية، لأنها تجدّد شباب هذه المجتمعات التي تعاني شيخوخة، أظهرت الوجه الآخر، عندما اعتبرت أن هذه الهجرة تشكّل تهديداً أمنياً وتهديداً لنوعية الحياة في هذه البلدان، ولأنها غير قادرة على دمج هذه الأعداد الكبيرة بالسرعة المطلوبة، فكان أن عملت هذه الحكومات، وبسرعة على وقف تعاظم هذه الموجة، مهما كان الثمن، فكانت أن عملت هذه الدول برقابةٍ شديدةٍ على حدودها، ولم يكن غريباً أن تكون أقسى هذه الإجراءات الرقابية، هي التي فرضتها السويد، الأكثر حساسية لحقوق الإنسان، على الداخلين إلى أراضيها. وفي هذه المسألة، كانت حقوق الإنسان منطلقةً من اعتبارات المركزية الأوروبية وحاجاتها. عندما كان هؤلاء اللاجئون الفارون من الحروب مصلحةً أوروبية، كان مرحباً بحمايتهم، وعندما باتوا تهديداً، لم تعد مسألة حمايتهم تعني الدول الأوروبية، حتى لو كانوا قادمين من الحروب، يجب صدّهم. إنها حقوق الإنسان المجبولة بالمصالح، وليس بالمبادئ.
بالتأكيد، ليست سورية دولة مركزية في هذا العالم، لكن هذه الدولة التي تعيش على هامش العالم تختبر سقوط السرديات الكبرى، والأكثر مركزيةً، في أوروبا والعالم، حقوق الإنسان، والتي فشلت في حماية هذا الشعب من المذبحة العلنية التي يتعرّض لها. وفشلت حتى في معالجة الآثار الارتدادية لهذه المدبحة، بتكريس سياسات عنصريةٍ معلنةٍ في مواجهة أي موجة لجوءٍ كثيفةٍ جديدة.
المصدر : العربي الجديد