الثورة هي انتفاضة ضد الواقع رفض لهيمنة الأفكار المعلبة الجاهزة المستوردة منها والقديمة الموروثة، هي رفض للاستبداد ومفرزاته ومن كل أشكال التبعية، هي انبعاث أمة وسير نحو التغيير ولا يمكن أبداً أن تنتصر ثورة لا تقلب المجتمع رأساً على عقب لتخرج أسوأ مافي هذا المجتمع وأحسن مافيه.
وإذا نظرنا إلى التاريخ نجد أن المجتمعات لم تنهض إلا بعد أن واجهت بشكل مباشر خطر هدد وجودها فجنحت نحو البحث عن الحل الذي يكون فيه الخلاص لهذه الأمة، وعندما تهيمن فكرة الخلاص يبدأ طريق النصر ويتشكل وعي المجتمع وينصب ميزان الحق والعدل وتبدأ النهضة.
عندما يبدأ المجتمع بالبحث عن الخلاص تصل الثورة إلى أهم منعطفاتها وهي القدرة على جمع شتات هذا المجتمع ولا يتم ذلك إلا إذا تم تجميع ثلاثة عوامل وهي الأشخاص والجغرافية والوقت وهذه العوامل الثلاث هي ذاتها تلك العوامل التي بواسطتها تصنع الأمم حضارتها، فلا يمكن أبداً أن تبدأ أمة بصنع حضارتها مالم يعمل كل أفرادها على ذلك فالحضارة هي نتاج مجتمعات وليس أفراد، ومهما بلغ الفرد من العبقرية فلا يمكنه أن يصنع حضارة ولا يمكن صنع حضارة ما من غير أن ينصهر جميع أفراد المجتمع في مشروعها.
وبغض النظر عن النظرة المتشائمة لدى البعض إلا أن هناك مجتمع ثوري قد تم تشكله، هذا المجتمع بدأ بتنظيم نفسه وهذا التنظيم لن يبلغ مداه حتى تتكون ثوابت مشتركة لدى أبناء هذا المجتمع، هذه الثوابت هي القيم المجتمعية التي سيبني المجتمع عليها حضارته لاحقاً.
فلو أن الثورة كانت انتصرت قبل أن نكتشف زيغ بعض الفرق التي تتدثر بالشعارات الخادعة فلن يلبث المجتمع وقتاً قبل أن ينكص ويقع مرة أخرى في أتون الموت السريري لأن اختلال القيم يوقف عجلة الحضارة فلا حضارة بدون تآلف مجتمعي كامل وهذا تحديداً ما حصل في بعض المجتمعات التي عادت مرة أخرى إلى الموت السريري بعد أن سلمت للاستبداد مرة أخرى.
فبعد الكوارث الكبرى تزول الفوارق الطبقية والمناطقية التي كانت تشكل حاجزاً صلباً بين مكونات المجتمع وتمنعه من التآلف فهذه الكوارث تجعل المجتمع كالبنيان المرصوص وقد عرف مالك بن نبي هذه المرحلة (بالمرحلة الروحية ) وهي المرحلة التي يبلغ فيها المجتمع سن الرشد فيتحرك جميعاً بشكل غرائزي كأنه صفاً واحداً ضد من يعاديه ويتشكل نظام دفاع مجتمعي تلقائي هذا النظام يصل لاستنتاجات بديهية بما يخص العدل والصواب والخطأ فلا يعود هناك ثغرة لتنفذ الأفكار الغريبة لداخله وتعمل على تخريبه بل يكتسب المجتمع مناعة تحصنه من تلك الأفكار الهدامة (التي تمنع الإنسان من الإندماج في العالم المتحضر فتفقده قيمة وجوده وهي الدعوة إلى الله بالفعل امتثالاً لأوامره واجتناباً لنواهيه فيستحيل نموذجاً يعيش بين الناس ينظرون له نظرة إعجاب واحترام ويتمثلون به فيتحقق بذلك الهدف من وجودنا على هذه الأرض ) وما يلبث أن يطرد أصحابها وينبذهم ويبدأ نهضته الحضارية.
فالتحضر كما عرفه مالك بن نبي هو ( أن يتعلم الإنسان كيف يعيش في جماعة ويدرك في الوقت ذاته الأهمية الرئيسية لشبكة علاقاته الاجتماعية وفي تنظيم الحياة الإنسانية من أجل وظيفتها التاريخية) فتحضر الإنسان الفرد في هذا المجتمع شرط أساسي لتكون مجتمع متحضر وما ينطبق على الفرد وتعايشه مع محيطه الإجتماعي ينطبق على المجتمع فالمجتمع المسلم المتحضر هو مجتمع لا يمكن أن يكون انعزالياً ولا بأي شكل من الأشكال لأن الانعزال يمنع الناس من المفاضلة بين نموذج الحق الذي يقدمه المجتمع المسلم المبني على إعلاء القيم الإنسانية وبين المجتمع الآخر الذي تنعدم فيه القيم الإنسانية هذا هو جوهر الدين.
إن حركة المجتمع ككل بإتجاه هدف واحد يتمثل في إزاحة نظم الإستبداد وكل الأشكال المنبثقة عنه هو مؤشر قوي على أنه وصل للعصر الذهبي وهذا لا يعني أنه بلغ إزدهاره أبداً بل يعني أن قواه جميعها في حركة دائمة بشكل تصاعدي وهذه الحركة الديناميكية هي التي يدان فيها كل فعل تقاعسي تماماً كما حصل مع الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك في المجتمع الإسلامي الناشىء.
إن تسلل اليأس إلى بعض النفوس رغم أنه انطباع بشري عادي إزاء سقوط الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة هو أمر مقبول من عامة المجتمع إلا أنه لايمكن قبوله أبداً من النخب المثقفة التي تعي كلفة النهوض الباهظة وتدرك أن بقاء الإستبداد يعني دفع أضعاف مضاعفة مستقبلاً وهو أمر لن يحصل أبداً طالما أن أبناءنا باتوا يسيرون بثبات نحو التحضر.
المصدر : وطن اف ام