بعد حكومة نجيب ميقاتي الأولى في لبنان، عقب جريمة اغتيال رفيق الحريري مباشرة، ولم تعمر أكثر من ثلاثة أشهر، تتالت ست حكومات على لبنان، التزمت بتعداد أعضاء من مضاعفات العدد ثلاثة.
يرتبط الرقم ثلاثة بمفهوم التعطيل والضمان، وهي مفردات “فوق” دستورية، جرى استنباطها من بنود اتفاق الطائف الذي ينصّ على أن الحكومة تعتبر مستقيلةً إذا فقدت ثلثها. عُدِّل الدستور اللبناني، وتضمن ما اتفق عليه في الطائف، بما في ذلك بند الثلث الذي أصبح جزءاً حسابياً حاضراً في فولكلور الحكومات اللبنانية المتعاقبة. في الحكومة الجديدة التي أنجزت بيانها في زمن قياسي، وتكاد مهمتها تنحصر في إعداد قانون انتخابات جديد، يتكرّر مشهد الوزراء الثلاثين، وتحضر أدبيات التهديد بالتعطيل، على الرغم من أن الطرف الذي يصرّ على التعطيل يمتلك الآن حصةً كبيرة في الوزارة، تقترب من الثلثين. ولكن، بما أن فترة هذه الحكومة قصيرةً ومحدّدة بالانتخابات النيابية المقررة في مايو/ أيار 2017، فالحوار اللبناني السياسي سيكون محصوراً في القانون الانتخابي، وهو أحد المشكلات المستعصية الأساسية.
غيَّر اللبنانيون، بعد الحرب الأهلية، قانونهم الانتخابي ثلاث مرات، آخرها كان عام 2008، والمجلس النيابي الحالي هو ثمرة ذلك القانون، وفي كل تغييرٍ يواجه السياسيون اللبنانيون “مشكلات” في القانون الانتخابي، فيعاودون تغييره. مع اعترافهم جميعاً بأن مرجعهم هو اتفاق الطائف، في حرصٍ شديد، وإصرار حاد على بقائه، على الرغم من أنه من منتجات الحرب الأهلية، وبعض بنوده ما زالت تحمل آثارها، ولكنه، ككل دساتير العالم، يحمل تعاريف الدولة وسلطاتها المختلفة، ولا يتناول مسألة الطوائف، إلا بمعنى الرفض الظاهري لها. ويحاول أن يكون منصفاً ومتعالياً على واقعه المعروف بتقسيم كراسي المجلس النيابي بين المسلمين والمسيحيين مناصفةً، ثم يتحاصص كل دينٍ، حسب نسب مذاهبه، من دون أن يذكرها أو يحدد النسب، وكأنه يتعفّف عن ذلك، باعتباره وثيقة وطنية جامعة، وليس عقد محاصصة بين مجموعة طوائف متكتلة على أساس مذهبي.
على الرغم من التغيير المتكرّر للقانون الانتخابي، يستمر وجود الطبقة السياسية الحاكمة في البرلمان المؤلف من الوجوه نفسها التي تتبنى العناوين السياسية العريضة نفسها، والتي تعكس غالباً سياسات الإقليم كله، وكأن انتخابات لبنان تخضع لمزاج الإقليم، وليس لقانونٍ معدّ مسبقاً حضَّره خبراء في القانون وعتاة في السياسة.
لا يوجد في الدستور، ولا حتى في وثيقة الطائف، ذكر لطائفة رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء ولا رئيس مجلس النواب ولا حتى لقائد الجيش، لكن الممارسة السياسية في الواقع تخضع لنظام “عرفي” لا يُخترق، وهو معروفٌ وراسخٌ بقوةٍ، إلى درجة أن رئيس مجلس النواب اعترض على ترشيح المغنية ميريام كلينك لمنصب رئيس الجمهورية، لأنها فقط غير مارونية، ولا توجد وثيقة رسمية واحدة تؤيد حجته تلك، ولكنه قالها وسلم بها كل أعضاء المجلس.
تعود المسلمات المذهبية في تقلد المناصب في الدولة اللبنانية إلى عهد الانتداب، وهو زمن سبق وجود معظم سياسيي هذه الأيام، لكن الاعتراف بها ليس محل شك، الشك فقط يطاول قانون الانتخاب الذي يجري الحديث عن مساوئه، والمباشرة بتغييره، كلما حان موعد الانتخابات، حيث يلقى اللوم على قانونٍ تم إنتاجه لتعزيز الحياة السياسية، فيتبين أنه يعرقلها. لذلك، يُصار إلى استبداله، مرة بعد مرة.
مرَّت على لبنان أحداثٌ منعته من إعادة النظر في منظومته الطائفية، كالحرب الأهلية وبعدها الهيمنة السورية، وقد نتج عنهما استعصاء حزب الله الذي يشكل حالةً عسكريةً ومذهبيةً، وهو عامل إعاقة أساسي، في وجه تبني شكل حضاري للدولة، يتجاوز الغوص في تعقيدات اتخاذ قانون انتخابات نيابية جديد، فيما المطلوب أكبر من ذلك، لكن الظرف الذي بدأت فيه الحرب الأهلية، ومن بعدها السيطرة السورية، ما زال موجوداً. لذلك، قد يشكل العثور على قانون انتخاباتٍ مقبولٍ جائزة ترضية تستحق الحكومة الجديدة معه اسم حكومة “الوفاق” الوطني.
المصدر : العربي الجديد