مقالات

د. فايز الرشيد – «بوتين فوبيا».. وسياسة روسيا الصاعدة

استرعت انتباهي افتتاحيتان في «القدس العربي»، نُشرتا خلال عشر أيام من شهر ديسمبر المنصرم، الأولى تحدثت عن «سرّ جاذبية بوتين»، والثانية عن «طرد الدبلوماسيين الروس من واشنطن».

أود إغناء موضوع الافتتاحيتين، لذا، أراني منشدّاً إلى كتابة مقالتي هذه عن بوتين وروسيا الصاعدة، انطلاقا من قضيتين، الأولى، أنني عشتُ فترة امتدت لاثني عشر عاما في الاتحاد السوفييتي، وعلى مرحلتين، أوج الاشتراكية، وما قبيل انهيار نظامها، ولأنني كاتب، كنتُ وما زلتُ مهتما بما حولي، أدّعي أنني على بعض معرفة بالسياسية الروسية.

القضية الثانية، أنني منذ عام ونصف العام تقريبا، ومن أجل الإعداد لكتاب عن روسيا الحالية، كنت في زيارة لبيلاروسيا وأوكرانيا وروسيا، امتدت أربعين يوما، حرصت خلالها على مقابلة مؤيدين ومعارضين لرؤساء الجمهوريات الثلاث، وفعلا صدر كتابي بعنوان «أفولْ»، ولاقى رواجا جيدا في أوساط المثقفين والمهتمين بالسياسة الروسية، وبالفعلْ، لقد عرضَ عليّ مستشار بوتين، ألكسندر فيودروفيتش بيريدنيكوف (عندما لاحظ اهتمامي بالسياسة الروسية) مقابلة رئيسه، لكن، كان يتوجبّ عليّ الانتظار عشرة أيام إضافية، وهو ما كان صعبا بالنسبة لي من زوايا مختلفة. اليوم، أعض على أصابعي ندما، لتفويت تلك الفرصة.

جاء الرئيس بوتين بعد عهد الرئيس (السكّير) يلتسين، الذي أوصل أوضاع الاتحاد الفيدرالي الروسي إلى الحضيض.

كان العالم يقرأ حينها، عن أبطال الحرب العالمية الثانية من الروس، الذين عرضوا نياشينهم وأوسمتهم للبيع في محطات المترو، الممتلئة بالمشردين، والشحاذين. وصلت روسيا في تلك المرحلة إلى القاع، حتى في تقييمها كدولة عالمثالثية (حقيقة، لم أزرْ روسيا آنذاك، ولمرحلة ربع قرن زمني، حفاظاَ على ذكريات جميلة لي فيها، من قبل). حينها، تسولت روسيا حتى القمح من الولايات المتحدة والدول الغربية. هذا يتعاكس مع طبيعة الشعب الروسي المتعدد القوميات، والمعتز بهويته وقوميته الروسية. ثم جرى انتخاب بوتين، وابتدأ خطوتين جذريتين: القضاء على المافيات الروسية الكثيرة والقوية، وإعادة كل مؤسسات القطاع العام إليه من جديد، بتخليصها من أيدي المليارديرات الروس، أو ما اصطلح على تسميتهم بـــ»الطغمة الأوليغاركية» في روسيا. وأعاد بوتين للدولة هيبتها، وتمكن من استخلاص الأموال من كل الذين سيطروا فعلياً على الاقتصاد الروسي، أعاد إليهم أثمان ما دفعوه، وصادر الباقي، وكانوا قد اشتروها بأبخس الأثمان. خلال سنتين إلى ثلاث سنوات، استطاع بوتين أن يجعل الاقتصاد الروسي يقف على قدميه، وجرت تصفية كل المافيات، وقسم كبير من المليارديرات الروس، فرّوا إلى الخارج.

والجدير بالذكر أن مدفيديف لم يكن خيار بوتين لرئاسة الوزراء، بل كان شخصا آخر، لكن من فرضه، هم الأوليغاركيون، الذين انتعشت امبراطورياتهم المالية في السوق الاقتصادية المفتوحة والآمنة (وهذا هو الأهم) إضافة إلى زعماء الحركة الصهيونية المتغلغلة كثيرا في روسيا، لذلك، فإن التفاهم الروسي – الأمريكي في ظل رئاسة ميدفيديف، كان في أوجه، ولأول مرّة يجري تطابق بين الطرفين في مجلس الأمن، على أن يقوم الناتو بضرب ليبيا. هذا القرار الذي ما زال يحزّ في نفوس العديدين من الأوساط الحاكمة الروسية.

بوتين، رجل روسيا القوي، مزيج من القيصر الروسي التقليدي، الآتي من عاصمة روسيا القيصرية بطرسبرغ، الذي يميل إلى الحكم المطلق، ومن الزعيم التقليدي في العهد السوفييتي، رغم عدم انضمامه للحزب، وعندما خدم في الـ «كي. جي. بي».

كان تلميذاً لاندروبوف (الذي تولى الأمانة العامة للحزب فترة قصيرة – بضعة أشهر- ثم داهمه المرض، ويقال إنه توفي مسموماً، من قبل المرتبطين مع الغرب في قيادة الحزب). اندروبوف تصدى للغرب في فترة تسلمه للزعامة، وحارب التسيب والبيروقراطية، والفساد المستشري في أوساط الحزب والدولة، ومن معطفه خرج بوتين، الذي بالفعل جعل من روسيا وريثاً للاتحاد السوفييتي. لذا، فإن سياسات بوتين، لها خلفيتها التربوية، المعبّر عنها في سياساته الحالية. يظل بوتين منشدا إلى الحقبة السوفييتية، وعلى ذمة مستشاريه، بكى يوم انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة، ذلك الانهيار الذي وصفه بوتين في منتدى ميونيخ للأمن عام 2007 بأنه «أكبر كارثة جيواستراتيجية في القرن العشرين». تلك القراءة، هي التي حكمت سياسات الرئيس الروسي، منذ ذلك الحين حتى الان. لذا من الطبيعي والحالة هذه، أن تشعر الولايات المتحدة بالقلق من بوتين، ومن الدور السياسي الروسي، المتصاعد عالميا بوتائر متسارعة.

عاشت الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ودول المنظومة الاشتراكية، وانتهاء الحرب الباردة، مرحلة ذهبية، في عالم تميز بالقطب الواحد، وبقيادة أمريكا للساحة الدولية، ومن ثم وبعد مضي عقدين من الزمن، ظهرت روسيا والصين كدولتين كبيرتين ومؤثرتين، إلى الحد الذي يمكن القول فيه: إن قطباً عالمياً آخر بدأ في التشكل في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. هذا الواقع الجديد، يفرض حقائقه واقعاً على الأرض. إحدى هذه الحقائق: أن الولايات المتحدة لم تعد اللاعب الوحيد على الساحة الدولية، فروسيا والصين، خاصة الأولى، لهما وجهات نظر مغايرة لما تراه واشنطن وتحدده من مواقف سياسية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، القضية السورية، والمشروع النووي الإيراني، وكذلك حقيقة أن كوريا الشمالية أصبحت لاعباً نووياً، بحيث بات من الصعب توجيه ضربة عسكرية لها، من قبل الولايات المتحدة ودول المعسكر الغربي.

في مقالة له في «النيوزويك»، في أغسطس عام 2013، كرر بوتين ما كان قد قاله في خطابه في مؤتمر ميونيخ، حول رؤيته للسياسات الخارجية الروسية، تطرق فيها إلى أهمية الصداقة مع الولايات المتحدة والدول الغربية عموما، وأهمية العمل معا لحل المشاكل على الصعيد الدولي، مؤكدا على كارثية تحكم الدولة الواحدة بالشؤون السياسية العالمية، رغم ذلك، ظلت العلاقات بين البلدين محكومة بالتوتر، زاد من وتائره بالطبع، الحرب في جورجيا، قضية أوكرانيا، واسترجاع شبه جزيرة القرم، التي كان خروتشوف في عام 1956 قد ألحقها بأوكرانيا، كذلك نصب الصواريخ الباليستية للناتو على حدود روسيا في بولندا ودول البلطيق، ما اعتبرته روسيا تحديا كبيرا لها. كل ذلك، أدى بالغرب إلى التعامل بحذر كبير مع بوتين، وبقلق بالغ أو ما يسمى بـ «البوتين فوبيا».

بالنسبة للتدخل في سوريا، أذكر أن لقائي بمستشار بوتين كان في يوليو 2015، وعندما سألته عن الموقف الروسي مما يجري في سوريا؟ عبّر عن امتعاض روسيا من التدخل الأمريكي الغربي فيها، بعيداً عن التفويض الدولي. تلخصّ رأيه يومها في التالي: أن ما يجري في سوريا يؤثر بشكل مباشر على روسيا (الفيدرالية الروسية تعتبر كل جمهوريات آسيا الوسطى: كازاخستان، أوزبكستان وقرغيزتان)، خطّ الدفاع الأول عنها. أخبرني يومها بالحرف، ستسمعون قريبا في الشرق الأوسط، أخبارا عن خطوات مهمة ستتخذها روسيا. حاولتُ بشتى الوسائل والطرق، الاستفسار منه عن ماهية هذه الخطوات، إلا أنه رفض الإفصاح، وبالفعل في 30 سبتمبر كان التدخل الروسي. ووفقا لمستشار بوتين الثاني أوليغ إيفانوفيتش فومين، فإن هناك معهدين في موسكو ملحقين بوزارة الخارجية، الأول، برئاسة المحافظين التقليديين، والثاني من الليبراليين، الداعين لعلاقات متنامية مع أمريكا والغرب، وبذا يكون أمام بوتين مساء كل يوم تقريران مختلفان، لأحداث اليوم نفسها من المعهدين، وفي النهاية، يتخذ قراره منفرداً. ولهذا تسري مقولة في روسيا، فحواها، «لا يعرف ما في رأس بوتين، إلا بوتين نفسه».

أما النسبة لطرد أمريكا للدبلوماسيين الروس، فهي عادة قديمة منذ بدايات الحرب الباردة، لذا فإن قرار بوتين بعدم الرد، وفقا لمراقبين كثيرين، يعتبر في منتهى الذكاء. فلا يختلف اثنان على عقلانيته وهدوئه ودهائه وبُعد نظره، لأنه أحبط، محاولة اوباما وضع أسفين في علاقات موسكو بواشنطن في عهد ترامب، فبوتين الذي يقود دبلوماسية روسية، نشيطة ومتقدمة، تتخذ صفة الهجوم متعدد الجبهات والاتجاهات، وتجمع بين السياسي والدبلوماسي والعسكري، ولكن في اطار بُعد استراتيجي متكامل النظرة، محسوب بدقة، يلحظ في الاساس المتغيرات والتحولات التي طرأت على موازين القوى الدولية والاقليمية، الآخذة أيضاً في التعمق أقلُّه، في انهيار ما سعت اليه واشنطن بحماسة، لبناء نظام دولي جديد يقوم على تفرّدها في قيادته.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى