مقالات

لؤي صافي – الحل السياسي في سورية وهم أم حقيقة؟

الحل السياسي للصراع العسكري في سورية حاجة ضرورية لمنع الانهيار الكامل للمجتمع السوري، وزعزعة استقرار دول الجوار. وهو ضروري قبل ذلك لوقف حمام الدم المستمر منذ خمس سنوات. نظرياً تدعم جميع الأطراف المتصارعة، باستثناء «داعش» و «فتح الشام»، مشروع الحل السياسي منذ سنوات. القوتان العالميتان الأكثر تأثيراً في الحالة السورية، روسيا والولايات المتحدة، تدعمان أيضاً الوصول إلى حل سياسي ووضعتا في جنيف عام 2013 ثم في فيينا عام 2015 خريطة طريق للوصول إليه.

كذلك دعمت المعارضة السورية ورقتي جنيف وفيينا وشاركت في مفاوضات جنيف عام 2014، التي أفشلها النظام برفضه قبول تشكيل هيئة الحكم الانتقالية التي نص عليها بيان جنيف وجميع القرارات الأممية التالية له. روسيا لم تمارس أي ضغوط على نظام الأسد للالتزام بوثيقة جنيف، بل عملت على حمايته من أي إدانة أممية في مجلس الأمن، ثم وضعت ثقلها العسكري خلفه خلال السنة الماضية. اليوم تدفع روسيا باتجاه الحل السياسي وتدعو المعارضة المسلحة في الشمال، ومعارضين سوريين تنتقيهم من دون تشاور مع قوى المعارضة الرئيسية، للمشاركة في مؤتمر آستانة.

أعتقد شخصياً بأهمية الحل السياسي للصراع العسكري في سورية وبضرورة التفاوض للوصول إليه، وكنت في مقدم الداعين للمشاركة في مؤتمر جنيف، وشاركت في الوفد الأول الذي مثل الثورة السورية. ولكني أجد نفسي اليوم في المعسكر الرافض للتحرك الروسي تحت غطاء الحل السياسي، وأرى أهمية التعامل بحذر شديد مع مؤتمر آستانة والتصور الروسي لتفاصيل هذا الحل، لأني أعتقد أن روسيا تسعى إلى تفريغ وثيقة جنيف والقرارات الدولية المرتبطة بها من بنودها التي تمنح السوريين الفرصة الحقيقية للدخول في عملية انتقال سياسي لا يمكن لسورية أن تستعيد عافيتها ما لم تقم بها. وفي ما يلي جملة الحيثيات التي تدفعني إلى التشكيك في المسار الروسي الذي يمر عبر مؤتمر آستانة.

أولاً: ألزمت القيادة الروسية، بالتفاهم مع تركيا، الفصائل المقاتلة في الشمال بالمشاركة في مؤتمر آستانة بعد موافقتها على وقف شامل لإطلاق النار وقبولها التمييز بين معارضة متشددة لا تخضع لشرط وقف إطلاق النار، ومعارضة معتدلة تعترف روسيا بها.

ثانياً: تمت المفاوضات التي أنتجت مشروع آستانة بين روسيا وتركيا في شكل أساسي، وبالتالي فإن الأتراك هم المفاوض الحقيقي. ويصب سعي الأتراك إلى وقف شامل للقتال في مصلحة الثورة التي استطاع النظام بحنكة ودهاء عسكرتها. وهذا سيتحقق من دون الحاجة الى مشاركة المعارضة السياسية في مؤتمر آستانة، لأن التعويل هنا هو على التفاهمات مع المقاتلين وعلى المصالحات المحلية. المعارضة السياسية تستطيع المساهمة من خلال دعم مواقف المجالس المحلية في المناطق المحررة، والتنسيق بينها.

ثالثاً: تتحكم روسيا بدعوة السياسيين، وهي ستختار الخلطة المناسبة لتوليد المعارضة التي تحقق لها أهدافها. وانسحاب أفراد دعوا بأسمائهم لن يؤثر في المسار العام للمشروع الروسي، ولكنه سيضعف المعارضة أكثر مما ساهمت الدول خلال السنوات الماضية في إضعافها.

رابعاً: عدم مشاركة قوى المعارضة السياسية الرئيسية سيحول بين الروس وخرق الإجماع الحالي حول جنيف، وسيفرض بيان جنيف مرة أخرى كما حدث بعد مؤتمري موسكو وآستانة السابقين.

خامساً: خرقت روسيا وقف إطلاق النار في وادي بردى، وتسعى إلى الحسم العسكري ووضع سكان هذه المنطقة تحت خيارين: إما الاستسلام الكامل للنظام أو تحويل الوادي إلى قطعة من الجحيم، بالطريقة نفسها التي تعاملت بها مع مدن وقرى الشمال السوري.
تدل حيثيات التحركات الروسية، بما فيها التحركات العسكرية على جبهات الصراع داخل البلاد، على أن موسكو تسعى إلى تحويل مؤتمر آستانة إلى منصة لاستسلام المعارضة وقبولها العمل تحت القيادة الراهنة للنظام الذي أدى الى الكارثة السورية، مع تغييرات طفيفة لا تولد تغييراً مهماً في بنيته. هذا يعني أن المعارضة في حال قبولها المشروع الروسي ستصبح شريكة للنظام في كل المآسي المستقبلية التي ستنجم عن استمراره في الحكم. فالنظام سيمنع، كما فعل عبر تاريخه الطويل، قيام أي تغيير حقيقي. وطبيعة النظام واعتماده المتزايد على قوى طائفية محلية واقليمية للاحتفاظ بالسلطة، سيؤديان إلى تدهور كبير في الواقع الاجتماعي والسياسي بدلاً من تحقيق التطور الإيجابي الذي يطلبه ويستحقه السوريون الأحرار.

إن المعارضة السياسية التي تمثل روح الثورة الراغبة في إنهاء الواقع السوري المرير تتحمل مسؤولية وطنية وأخلاقية وتاريخية تحتم عليها الابتعاد عن أي حل سياسي يكرس سلطة نظام الأسد، ويكرس بالتالي واقع الاستبداد والفساد. كما أن احتفاظ القيادات السياسية للمعارضة بموقفها الأخلاقي في رفض الاستبداد والفساد سيبقي على الشعلة التي حملتها ثورة الحرية والكرامة، والأهداف التي قامت من أجلها حية وقّادة يحملها الشباب الواعي من أبناء سورية الأبية ويسعون لتحقيقها عندما يحين الوقت وتتضافر عوامل نجاح التغيير الضروري والقادم بحول الله. المؤرخون يسمون الثورة التي قامت عام 1936 ضد المستعمر الفرنسي بالثورة السورية الكبرى. وهي ثورة انتهت بعد ثلاث سنوات من اندلاعها من دون تحقيق أهدافها ولكنها كانت الخطوة الضرورية التي أدت إلى حصول سورية على الاستقلال عام 1946.

طبعاً هذه ليست دعوة إلى السكينة السياسية ضمن ظروف تتحكم فيها إرادات دولية ودول اقليمية، وتخضع فيها الفصائل الثورية المسلحة لتأثير تلك الدول. بل هي دعوة إلى التحرك بحذر وإدراك حدود القدرة الذاتية وعدم الانجرار خلف تحركات دولية لا يمتلك فيها السوريون فرصاً كثيرة لتحقيق الأهداف التي انتفضوا دفاعاً عنها.

أعلم أن المعارضة منهكة ولكن النظام منهك أيضاً. والقبول بمواقف تلغي السنوات الخمس ونتائجها السياسية على النظام خطأ استراتيجي قاتل. أسوأ ما يمكن أن يقوم به السياسيون اليوم هو التخلي عن ورقة جنيف والقرارات الدولية الداعمة لها تحت ضغط الظرف الراهن. أعلم أن السياق ضاغط والوضع سيئ، ولكني لا أرى أي مخرج للسوريين وعودة للاستقرار خارج إطار عملية انتقالية حقيقية.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى