يدرك الجميع، وقد يكون رأس نظـام دمشق أولهم، أن سوريا التي يتم تناول اسمها في وسـائل الإعلام بشكل يومي منذ ما يقارب الست سنوات، مختلفة تماما عن تلك التي يتحدث عنها بشار الأسد في كل ظهور إعلامي له، بل إن الأسد نفسـه ليس هو ذلـك الشخص الذي كـان يحكم تلك الدولة، فقد تغير كل شيء واختلت موازين الدولة وباتت نهبا لكل الاحتمالات، ولم تعد وعود الإصلاح والمصالحات الشكلية قادرة على رأب الصدوع التي حدثت. فقد تحول الأمر برمته إلى أيدي لاعبين دوليين وإقليمين، ليس بشـار الأسد واحدا منهم على أي حال، ورُسمت مشاريع معقدة ومتشعبة ليست من بينها فكرة الدولة السورية على الإطلاق.
وإذا كانت الأنظار تتجه الآن إلى العاصمة الكازاخية أستانة بوصفها النقطة التي سيلتقي عندها الجميع في وقت ما من هذا الشهر ليضعوا الأسس لحل سلمي مفترض وفق رؤية روسية تركية فرضتها ظروف الأرض والتطورات التي طرأت على المشهد مؤخرا، فإن وجود رأس النظام مفاوضا على الجانب الآخر من الطاولة لا يعني على الإطلاق قدرته على فرض شروطه التي يصر من خلال تصريحاته الإعلامية الإيحاء بأنه قادر على فرضها، وإنما هو مدعو شأنه شأن الآخرين وبقرار مباشر من موسكو التي حددت ظروف التفاوض وشروطها، ورتبت كل شيء بعيدا عما يريده نظام دمشق وحلفاؤه الآخرون، إيران وقطعان الميليشيات العاملة تحت رايتها، والذين لا يعجبهم أبدا البحث عن حلول تعطل مشروعهم الذي بدأت ملامحه تتشكل على الأرض، سواء أنكرنا ذلك أو اعترفنا به، وتحديدا في المناطق المحيطة بدمشق والتي لم يشملها اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه نهاية العام الماضي بين روسيا وتركيا من جهة، وفصائل المعارضة المسلحة من جهة أخرى.
فقد واصلت ميليشيا حزب الله سعيها الدؤوب لرسم خارطتها على الأرض ضاربة عرض الحائط بكل التعهدات، فهي أيضا تغيرت تغيرا كبيرا وتحولت من مجرد أداة يحركها نظام دمشق وتعمل وفق توجيهاته في أوقـات سابقة إبان عهد الأسد الأب، وحتى ما قبل انطلاق الثورة السورية، بحيث لم يكن قائد ميليشيا حزب الله سوى قاتل مأجور يدير عصابة تنفذ في لبنان الأوامر التي تصلها من دمشق، دون أن يجرؤ على مناقشتها والتي تتجسد على أرض الواقع عبر اغتيالات سياسية وتفجيرات وعمليات اختطاف، لكنه الآن لم يعد كذلك بل تحول إلى كيان مستقل كليا عن أجهزة المخابرات السورية، بل يمكن القول إن تلك الأجهزة التي كانت تديره سابقا باتت تحت إمرته الآن، كما بات نظام دمشق ينفذ التعليمات الإيرانية والروسية بحذافيرها، ولا يجرؤ على مناقشتها أو الاعتراض عليها، فانتصار حلب المزعوم والذي قيل إنه غير المعادلة برمتها، هو انتصار روسي إيراني شاركت فيه قوات النظام السوري بوصفها إحدى الميليشيات التي تأتمر بأوامر القوى الفاعلة جوا وأرضا، بل إنها لم تستطع التفاخر بانتصارها أمام عدسات الكاميرات كما حدث في مرات سابقة، لأن قائد جيش القدس الجنرال الإيراني قاسم سليماني هو من كان في الصورة وليس أيا من جنرالات دمشق، وقيل بعدها إن موسكو رفضت أن يقوم الأسد بزيارة إلى حلب للاحتفال بانتصاره.
هذه الصورة الواضحة لكل متابعي الشأن السوري وللمواطنين السوريين بطبيعة الحال والذين باتوا يعانون من سطوة الميليشيات وحواجزها المنتشرة في أماكن نفوذها في العاصمة دمشق وما حولها أو حتى في المنطقة الساحلية التي ينظر إليها على أنها المنطقة الأكثر أمانا في هذا الجحيم السوري، ولا تكتمل الصورة، طبعا، إلا بالنظر إلى الجغرافيا التي تشير إلى أن ما يقارب ثلثي مساحة الدولة السورية بات خارج سيطرة النظام بشكل كلي ولا يمكنه أن يقترب منه أو يفرض قوانينه عليه، كما هو الحال في المناطق الشرقية الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش، والذي يستطيع التحرك بسهولة حيثما يشاء دون أي مقاومة تذكر في الكثير من المرات، رغم وجود التنسيق الكامل بين النظام والتنظيم، والذي اعترف به مؤخرا أمين سر مجلس الشعب السوري خالد العبود.
أخيرا يجب ألا ننسى أن ثمة ثورة مازالت قادرة على إسمـاع صوتها رغم كل ما تعرضت له من أهوال. ثورة، وإن بدا الكلام نظريا، ما إن هدأت وتيرة القصف يوم الجمعة الأخير من العام 2016 حتى عادت لترفع شعاراتها الأولى التي رفعتها في أيامها الأولى والتي طالبت بإسقاط النظام. ولأن النظام لم يعد هو نفسه النظام، مهما حاولوا نفخه، وسوريا لم تعد هي نفسها مهما بالغنا في رومنسيتنا، فإن التفاوض، إن حدث، سيكون على البقايا، بقايا نظام وبقايا دولة.
المصدر : العرب