عديد من التساؤلات سيطرحها السوريون، وهم يتابعون نقلاً عن إحدى القنوات الفضائية مشاهد من قاعة تفاوض، سواء كانت في آستانة أو غيرها، من مثل: من هم هؤلاء الأشخاص الذين يجلسون على الجانب السوري المعارض كممثلين لهم؟ أو أين هم ممثلو المعارضة السياسية؟ أو هل ما يجري ينم عن استدارة دولية عن الثورة المدنية لصالح تنصيب فصائل المعارضة العسكرية، وإيلاء الأولوية للصراع العسكري، الذي سعى النظام، أصلاً، الى تصديره أمام الرأي العام للهرب من استحقاقات الحل السياسي، أو استحقاقات ثورة قامت لأسباب سياسية وحقوقية بالدرجة الأولى؟ هذه أسئلة مؤلمة، لكنها محقّة من جهة، وربما مجحفة من جهة أخرى!
مع ذلك، ومن الناحية المبدئية، يمكننا القول إن ثمة أهمية اليوم، وبعد كل هذه الكارثة والأثمان الباهظة المدفوعة، أن يشعر السوريون بأن وقف المقتلة السورية، من خلال تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، ممكن، وبإرادة الأطراف الفاعلة والمؤثّرة والمهيمنة على الأرض، أي أن تبدأ المفاوضات بين ممثلي الجبهات العسكرية من طرف المعارضة والداعمين لهم من جهة، وبين الحكومتين الروسية والإيرانية ومن أطلق يدهما في سورية، أي النظام السوري، على الجهة المقابلة.
كما من المهم أيضاً التذكير بأن أي فرصة متاحة لعودة الأمان للسوريين هي في الآن ذاته فرصة للثورة السورية أن تستعيد حراكها من أجل الحرية وإقامة الدولة الديموقراطية، التي تحفظ حقوق مواطنيها أفراداً وجماعات، وتنهي تغول الأمن والجيش في السياسة وفي التدخّل في حياة المواطنين. هذه الجزئيّة التي كانت سبباً مباشراً في تفجر الثورة السورية في 18 آذار (مارس) 2011.
لكن ما يجري، أو دلالة ما يتم تحضيره في مؤتمر آستانة، يشير إلى تغير المعطيات التفاوضية، إذ لم تعد المسألة اليوم تتعلق بالتنافس بين معارضة الداخل ومعارضة الخارج، ولا بين هذه والمعارضة المحسوبة على النظام، إنما أضحت بين المعارضة السياسية ممثلة بـ «الائتلاف الوطني» و «الهيئة العليا للمفاوضات» من جهة، وفصائل المعارضة العسكرية من جهة أخرى.
هذا التطور الكبير ينبغي إدراك تبعاته، ليس من باب التخوين المتّبع في الحالة السورية بين الأطراف، عند انعقاد كل مؤتمر، وإنما للبحث في أسباب هذه الاستدارة الروسية المريبة، بقبول التفاوض مع أكثر الفصائل التي أوجعتها، والتي تسبّبت في خسارة النظام كثيراً من مواقعه، بعد إيقاف القصف الجوي الروسي، وخصوصاً أن موسكو بذلت جهوداً لتصنيف هذه الفصائل بـ «الإرهابية»، رافضة هي والنظام ومعارضته المحسوبة عليه، الجلوس مقابلها في جنيف. كل هذا يجعل البحث في أسباب انقلاب روسيا على ماضيها موضع شك، ولا بد للفصائل الممثلة في مؤتمر آستانة أن تبحث فيها، وأن تستفيد منها لتحقيق مكاسب ليست فقط عسكرية ولكن إنسانية وسياسية.
فهل تسعى روسيا لتشكيل ترويكا دولية تحل مكان مجموعة «أصدقاء الشعب السوري» تتألف من روسيا وإيران وتركيا، وربما تنضم اليها السعودية لاحقاً؟ وهل سينتج عن المؤتمر مجلس عسكري مشترك بين المعارضة والنظام يطيح بشكل فعلي بالمعارضة السياسية وبرموز النظام نفسه، وتكون مهمته صناعة مستقبل سورية على شاكلة ما حدث في مصر؟ ثم من هو «سيسي سورية» الذي تصنعه هذه الترويكا؟
أخيراً، هذا الواقع الجديد للفصائل المعارضة بين مؤيدة للتفاوض مع روسيا والنظام تحت الضمانة التركية، وبين رافضة للتوافقات التي أفضت إلى المؤتمر المزمع عقده في آستانة، يطرح تساؤلاً آخر يتعلق بالوظيفة التي قد تناط بهذه الفصائل لترتيب واستعادة المناطق التي تسيطر عليها الفصائل التي ترفض الدخول في ممر التفاوضات والتسويات.
قد تكون المليشيات الإيرانية مستعدة لاستمرار القتال لكن في تلك المناطق تحديداً ستكون الأكلاف باهظة على كل الأطراف، وأقل كلفة فيما لو استخدمت الفصائل السورية بعضها في مواجهة بعض، وهو الأمر الذي يجب الحذر منه وتجنبه في أي اتفاق يعقد تحت الكاميرات أو خلفها.
لهذا كله قد لا تكون روسيا اليوم أقل رغبة من السوريين في عقد مؤتمر يجمع صقور المعارضة المسلحة مع النظام، لإحداث ما يمثل انتصاراً لها، ولو ظاهرياً، من خلال مؤتمر آستانة أو غيره، في أقل وقت ممكن، وقبل تولي الإدارة الأميركية الجديدة قيادة المرحلة التي تبدو غامضة للروس أكثر من سواهم، في ظل تصريحات متناقضة ومتضاربة وفق المثل: «طاسة سخنة وطاسة باردة».
على ذلك، فالمطلوب اليوم أن تكون منصّة مفاوضات آستانة موجّهة نحو تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، وآليات مراقبته، ووضع عقوبات واضحة على من يخرقه، تطاول جميع الأطراف، وتحديداً ميليشيات إيران وتوابعها، وهذا لن يتم ما لم تقف كل فصائل المعارضة على خط جبهة واحدة، مقابل هذه الميليشيات، التي لا بد ستجتهد لخلق أسباب لخرق الهدنة، كما حدث سابقاً في حلب وريف دمشق وفي أماكن كثيرة من سورية، باعتبار أن ما تبقى من جيش النظام سيلتزم، على الأرجح، ما تقوله روسيا التي تتحكّم فعلياً به.
من جهة أخرى ستكون هذه الهدنة بمثابة فرصة لعمل مشترك بين الفصائل يشدّ بعضها إلى بعض لإقامة ما يسمى جبهة المعارضة العسكرية، والفائدة الحقيقية ربما تكون بإسباغ اللون الأخضر (علم الثورة) على منطقتها في اعتراف روسي ودولي، لخلوها من الأعلام السوداء لتنظيم «القاعدة»، في خطوة تنتزع كل حجج النظام السوري لقصف المدنيين.
من شأن مفاوضات آستانة إذاً أن تحول هزيمة حلب التي يستثمرها النظام السوري إلى نصر سياسي للمعارضة، إذا تعامل وفد المعارضة ذو الطابع المسلح بحِرَفية تجاه كل القضايا المطروحة على طاولة التفاوض الروسية ـ التركية، وفق رؤية المعارضة السياسية تجاه الحل السياسي الشامل لإعادة ترتيب أولويات المرحلة الانتقالية، التي تتوافق وأهداف الثورة السورية.
قد نقرأ أسماء لا نعرفها في وفد المعارضة، وهذه تشكّل انعطافة خطيرة أمام السوريين، لكنها قد تكون فرصتنا لتمهيد الطريق من آستانة إلى جنيف ومنها إلى دمشق ليس فيها من نظام الاستبداد إلا ملامحه الروسية.
المصدر : الحياة