ما وصلت إليه الأوضاع الراهنة في سورية يثير معضلة الجوهرية، ليس فقط بالنسبة للمعارضة السورية أو حتى السوريين، بل ربما لكثير منّا ممن تعاطفوا مع الثورة السورية في البداية، ووقف مع حق الشعب السوري الأصيل في الحرية والديمقراطية، بل وقبل ذلك الإنسانية.
تضعنا المعضلة المطروحة اليوم بين خيارين رئيسين؛ الأول هو الخيار الواقعي المدعّم بمؤشرات موازين القوى العسكرية على الأرض من جهة، وبالمعادلات السياسية الدولية والإقليمية من جهةٍ ثانية. أمّا الخيار الثاني فهو الأخلاقي- الإنساني المرتبط بالمبادئ والقيم وثيمة العدالة وبالمنطق الثوري المثالي، أي الإصرار على خيارات الحرية ومعاقبة النظام السلطوي الاستبدادي على الجرائم التي اقترفتها يداه أولاً، وبوصفه المسؤول الحقيقي عمّا آلت إليه سورية من دمار وكوارث ألمّت بأغلبية الشعب، بين القتل والتعذيب والأسر، والذبح، والهجرة القسرية والنزوح الداخلي.
ينبثق عن ذلك سؤال كبير؛ هل على المعارضة السورية القبول بالمنطق الواقعي، والتسليم بأنّ هنالك تحولات جوهرية في المرحلة الراهنة، عسكرياً وسياسياً، تجعل من الإصرار على إسقاط النظام أمراً غير ممكن، وكلفته ستستمر طويلاً، أم أنّ عليها الإبقاء على الحلم المشروع بالحرية والتحرر والتخلص من النظام الدكتاتوري؟
صحيحٌ أنّ المعارضة السياسية السورية قبلت، منذ البداية، بمنطق الحل السلمي، وذلك كان مشروطاً بانتهاء الصيغة الراهنة من النظام، وبإسقاط الأسد، وهي شروط عادلة محقّة، تمثّل الحدّ الأدنى لو كانت هنالك عدالة دولية حقيقية؛ لكن ما هو مطروح اليوم دولياً وإقليمياً لا ينسجم مع هذه الشروط والمطالب، بل هنالك تحول كبير تجاه القبول بالنظام السوري، حتى من الحليف الأكبر للمعارضة السورية، الأتراك (وقد ألقى ذلك بالون اختبار نائب رئيس الوزراء التركي في منتدى دافوس أخيراً)، وخروج شبه كامل للنظام الرسمي العربي من المعادلة السورية، وتحوّل في مواقف الإدارة الأميركية بالكلية، من ادعاء الدعوة إلى إسقاط النظام، إلى التخلي عن ذلك والتركيز على “داعش”، ونمو الدور الروسي، والتفاهمات الروسية- التركية..إلخ.
قلبت هذه المتغيرات موازين القوى العسكرية بالكلية في المشهد السوري، فبعدما كاد النظام أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في أكثر من مرّة، في بداية الـ2012، ثم في منتصف العام 2015، جاء التدخل الخارجي لينتشله تماماً، بداية بدور حزب الله وإيران والحرس الثوري، وتالياً بالدور الروسي المؤثّر.
مع ذلك، لم يكن التحالف الروسي- الإيراني ليقلب نتائج المعركة، لولا الانقلاب التركي، فهو قاصمة الظهر الحقيقية للمعارضة السورية، وكانت معركة حلب “نقطة التحول” الكبيرة. ولا ينفصل ما يجري اليوم في محافظة إدلب عن التحولات التركية، وعملية الفرز والاستقطاب في أوساط المعارضة السورية المسلحة هناك، إذ انقسم جيش الفتح على نفسه، وبدأ الصراع بين الفصيلين الرئيسين، جبهة فتح الشام وحركة أحرار الشام، وهو التحالف الذي رعاه ودعمه الأتراك سابقاً، لكنّهم يفككونه اليوم، بعد أن تغيرت “المعادلة” والحسابات!
على الطرف الآخر؛ توقفت غرفة “الموك العسكرية” (العمليات المشتركة بين الأردن وأميركا وفرنسا والسعودية والإمارات) عن الدعم العسكري للمعارضة المسلحة، وعمل الأردن على التوصل إلى تفاهمات “جنتلمان” مع الروس، فحيّد المناطق الجنوبية في سورية (درعا) عن كل الصراعات المسلحة، منذ عام تقريباً، وأعاد تصميم (وترسيم) الدور العربي والدولي في دعم المعارضة المسلّحة لمواجهة “داعش” حصرياً، مع عدم السماح بأي صدام مسلّح مع النظام السوري، فانتهت، عملياً، فعالية الجبهة الجنوبية القريبة من دمشق التي كانت أحد أهم روافد الثورة العسكرية الضاربة!
هذه العوامل جميعاً، بالضرورة، شبه حاسمة، ومؤثّرة جداً على “المسرح السوري”، فالمعارضة المسلّحة لا تعيش في فراغ، ولا تمتلك، في النهاية، قدرات خارقة، إذ اشتغلت البيئتان الدولية والإقليمية ضدها، فهنالك شروط رئيسة، مثل التسليح والتمويل والدعم والإسناد العسكري والفني والسياسي، ولا نتصوّر وجود مقاومةٍ مسلحةٍ نجحت سابقاً في تحقيق أهدافها السياسية في ظل ظروف دولية وإقليمية متواطئة، مثلما يحدث اليوم “ضد الثورة السورية”.
مع ذلك، لم يكن العامل الأكثر حسماً، ومقتل المعارضة السورية كل ما سبق، بل هو الحالة الداخلية لها، ولا أتحدث هنا عن الفجوة الكبيرة بين السياسيين والعسكريين، ولا عن ارتهان السياسيين لأجندات إقليمية ودولية متضاربة، بل عن الداخل نفسه، أي واقع الفصائل المسلحة وعلاقتها بالحاضنة الاجتماعية الشعبية السورية.
يكفي أن ننظر في “ساحات القتال”، ونعيد تعريف الواقع وتقييمه بصورة موضوعية وأمينة، بعيداً عن الأوهام، ونتساءل: ماذا تبقى من المعارضة السورية، ومن قيم الثورة السورية، على الأرض؟! في الرقة ودير الزور وبادية الشام تنظيم داعش، في إدلب وريفها جبهة فتح الشام (هيئة تحرير الشام لاحقاً) و”أحرار الشام”، وهم لا يؤمنون (في أغلبيتهم) بالديمقراطية وبالدولة المدنية، والفصائل الإسلامية الأخرى (الجبهة الشامية سابقاً) اضطرّت إلى الانضواء تحت عباءة “أحرار الشام” خشية من “فتح الشام”، بينما انضمت أجزاء من أحرار الشام- الجناح الأيديولوجي، سابقاً، إلى جبهة الفتح.
سلّمت المعارضة أغلب ريف دمشق، وما تزال التوترات والصراعات الداخلية بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن وجيش الفسطاط قائمة، وسينتهي الأمر إلى خروجهما معاً، واستلام جيش الأسد هذه المنطقة، بعدما صمدت ببطولة خلال الأعوام الماضية.
وفي الجبهة الجنوبية، كما ذكرت السطور السابقة، انتهت المعارضة المسلحة عملياً، وآلت إما إلى جيش خالد بن الوليد (جزء من “داعش”) أو إلى فصائل موالية للأردن، تنتظر تقرير مصيرها على طاولة التفاهمات الإقليمية والدولية.
أمّا باقي الفصائل فتحولت إلى أدوات في خدمة الأجندات الإقليمية والدولية، تارة تحت شعار “محاربة الإرهاب” وتارةً أخرى “تحت شعار: هذا أفضل من ذلك، كما هي الحال في معركة الباب حالياً”، لكن العامل الأكثر تأثيراً على هذه الفصائل هو المال، وبروز ظاهرة “أمراء الحروب” وبزنس الصراعات الداخلية.
بالنتيجة؛ دفع الشعب السوري ثمناً باهظاً غير مسبوق، وتعسكر عشرات الآلاف من أبنائه، وقتل مئات الآلاف، واعتقل مثلهم، وهجّر الملايين، ليس ليجدوا أنفسهم أمام خيارين؛ إما النظام أو القاعدة أو داعش أو المرتزقة؟!
أعتذر عن الصرامة والوضوح في التعابير. لكن أظن أن المطلوب اليوم هذا المنطق الواضح في قراءة الحالة الراهنة وتعريفها للانطلاق من ذلك إلى إعادة تقييم المقاربات التقليدية والخطابات التي تقدمها المعارضة، وإعادة تدوير الاستراتيجيات والأفكار في التعامل مع النظام، وترسيم أهداف جديدة، مثل إعادة التفكير في الجانب الإنساني، وإعطائه أولوية وأهمية، المطالبة بعودة المهجّرين وبتصفية حساب مع المرحلة السابقة، وبمحاولة بناء تفكير جديد ضد النفوذ الإيراني المتنامي، إعادة تدشين الحوار مع الأتراك على قواعد جديدة،.. إلخ.
المصدر : العربي الجديد