ليس صحيحا أن أفق التعاون التركي الروسي محدود وضيق، أو أنه ذو سقف معين لا يستطيع تجاوزه، ولا أدل على ذلك من أن تركيا أمام مشهد متغير في أوروبا نحو اليمين المتطرف، الذي سيكون أكثر رفضا لقبول تركيا في الاتحاد الأوروبي من قبل، بل إن الاتحاد الأوروبي يوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعد خروج دعوات في فرنسا للانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
وقد صرح وزير ألماني سابق قبل أيام أن تفكك الاتحاد الأوروبي أصبح أمراً محتملاً ، فانسحاب فرنسا منه سوف يحرم ألمانيا قيادة أوروبا وحدها، سواء في الاقتصاد او السياسة الأوروبية، لأن أكبر دولتين أوروبيتين بريطانيا وفرنسا ستكونان خارجه.
أما حلف الناتو فهو يواجه صعوبات أكبر مع مجيء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يقول إنه أصبح قديما ولا حاجة له، وان على الدول الأوروبية أن تتحمل كلفة حماية نفسها عسكريا، فإذا أرادت الحماية الأمريكية فعليها ان تدفع حصتها لأمريكا وليس العكس، وهذا كله يضع السياسة التركية في خيار الاستقلال عن اوروبا اكثر من ذي قبل، لأنها لن تستطيع المراهنة على الغرب وهو يتراجع في سنواته المقبلة، أو وهو يذهب إلى اليمين المتطرف أو إلى الشعبوية الضيقة.
أما روسيا فقد وجدت في تركيا دولة قوية، وبالأخص بقيادة حزب العدالة والتنمية وأردوغان، وروسيا بحاجة إلى صداقة دولة قوية في أوروبا ومستقلة عن المواقف الأوروبية، ولا تنصاع لأوامر أوروبا المعادية لروسيا، وقد كان الانتصار التركي على الانقلاب الأمريكي والغربي في 15 يوليو 2016 مؤشرا حقيقيا على قوة الدولة التركية والحزب الحاكم والرئيس الحاكم وتلاحمه مع الشعب التركي، وبما أن روسيا بحاجة إلى تركيا القوية، التي تملك قرارها السياسي والعسكري، ولو كان بدرجة أقل من الطموحات الروسية، بسبب ارتباطات انقرة السياسية والعسكرية مع الغرب، فإن روسيا مطالبة ان تقوي علاقاتها بتركيا القوية أيضاً، فالسياسة الروسية لا تسعى لكسب تبعية تركيا إليها، لأنها تعلم أن تركيا نفسها لا تسعى ولا تقبل التبعية لأحد، ولذلك فإن مستقبل العلاقات التركية الروسية واعد ومتزايد في النمو والقوة، ولكنه يواجه صعوبات ينبغي لكلا الدولتين الروسية والتركية تفهمها جيدا.
إن روسيا بحاجة إلى تفهم أن تركيا دولة إسلامية، وهي في هذه السنوات رئيسة منظمة التعاون الإسلامي، وروسيا نفسها دولة مراقبة في هذه المنظمة الدولية، وبالتالي فإن روسيا أمام قيود في معاملتها القاسية والظالمة للشعوب المسلمة أولاً،أوانها أمام مطالب أن يكون تدخلها في القضايا العربية عادلا وإيجابيا ولا يحرج تركيا ولا يغضبها، ليس كحكومة تركية فقط، وإنما كشعب تركي قبل كل شيء، لأن الحكومة التركية منتخبة ديمقراطيا من الشعب التركي، وتوجهات الشعب التركي لحل المسألة السورية معروفة، وهي ان تكون بما يوافق عليه الشعب السوري، الذي تمثله المعارضة السورية اليوم، وليس بما يوافق عليه ملالي إيران ولا قيادتها السياسية والعسكرية التائهة في غياهب التاريخ الأسود، ولا ما يمثله بشار الأسد من تاريخ أسود بقتل الشعب السوري وتدمير حياته، حتى يبقى في السلطة، فالرئيس الذي يقتل شعبه بالطائرات الحربية والدبابات وصواريخ سكود الروسية لا يستحق ان يكون رئيساً.
ولذلك فإن أمام روسيا وتركيا مزيدا من التعاون لاستكمال مستحقات الاتفاقيات التي وقعت في أنقرة بين المعارضة السورية والحكومة الروسية بتاريخ 29 ديسمبر 2016 ثم في الاستانة ثم في المباحثات الجارية الان بينهما، فروسيا مطالبة بالتحرر من قيود التزاماتها مع إيران وبشار اللذين لا يملكان أفقا صحيحا للحل السياسي والسلمي، وروسيا أمام خيار حرب وخسارة متواصلة في سوريا، إذا واصلت تعاونها مع إيران وبشار، وإما ان تكون جادة وصادقة ومضحية في التعاون مع المعارضة السورية وتركيا والدول العربية التي تدعم حلا سلميا صحيحا في سوريا.
أما أمريكا فهي أمام اختبار في بداية عهد ترامب، هل ستواصل سياسة أوباما في سوريا، في جعلها محرقة للدول والأحزاب والتنظيمات المعادية لأمريكا وإسرائيل، بما فيها روسيا وإيران وميلشياتها اللبنانية على وجه التحديد، أم أنها ستكون جادة بإنهاء الصراع في سوريا، فإذا كانت جادة فلن يكون الحل مع بقاء بشار رئيساً لسوريا، وإلا فإنها ستضع الحصان امام العربة، ولكن يمكن الاستبشار بأن خطوة فرض مناطق آمنة ستكون خطوة مهمة لتقييد قوات الأسد في قتل الشعب السوري بحرية، وهذا سوف يكشف علاقة بشار الأسد مع «داعش» وغيره من المنظمات الارهابية مثل حزب العمال الكردستاني وجناحه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته العسكرية قوات حماية الشعب، فهذه أدوات إشعال للحرب في سوريا، استخدمتها إيران وبشار الأسد وإدارة أوباما السابقة لتحقيق مكاسب خاصة بكل طرف منها، ولذلك لا غرابة أن تتحالف تلك القوى فيما بينها وتتحد لتخريب أي اتفاق تسعى له روسيا مع تركيا مع المعارضة السورية، وهذا يفرض على التعاون الأمريكي الروسي التركي العربي المقبل ان يضع حدا لهذه القوى لانهاء الحرب، والدخول الصادق بالحل السياسي السلمي، وهذا امر مستبعد ما لم تصاحبه قوة عسكرية تفرض على إيران ترحيل ميليشياتها من سوريا ولبنان أيضاً، ووقف عبثها في اليمن والخليج العربي.
لقد توفر لدى المسؤولين الأتراك ما يمكن أن يؤكد دورا أمريكيا وأوروبيا في المحاولة الانقلابية، ولكن تصحيح الأخطاء ممكن أيضاً، فترامب يمكن أم يحمل المسؤولية لإدارة اوباما وكيري، كما أن المسؤولين الأوروبيين يمكن ان يحملوا المسؤولية للقيادة العسكرية الأدنى، ثم يتم إصلاح الأمور بالتزام عدم التدخل بالشؤون التركية، بما يبعث على الاطمئنان في أنقرة، ثم الالتزام بتطبيق الاتفاقيات الدولية بتسليم المجرمين، سواء شاركوا بالمحاولة الانقلابية بطريقة مباشرة مثل الضباط الأتراك الفارين إلى اليونان، أو الضباط الأتراك العاملين في مكاتب الناتو في اوروبا، او المتورطين بالانقلاب وتزعمه وهم في امريكا، فهؤلاء جميعا صدرت بحقهم أحكام قضائية من المحاكم التركية، وليس من حق الدول الأخرى الامتناع عن تسليمهم لدولتهم، ولكن من حقهم متابعة قضاياهم في المحاكم التركية، حتى يضمنوا لهم محاكمات عادلة.
ولكن مهما كانت المواقف الغربية من تركيا فإن التحرك التركي نحو روسيا ليس مجرد ردود أفعال ولا مناكفة سياسية مع الغرب، وإنما هي مصالح تركية تفرضها الرؤية الاستقلالية للحكومة التركية، فعهد الارتباط العضوي باوروبا انتهى إلى غير رجعة، ولكن عهد التعاون المصالحي مفتوح مع روسيا ومع اوروبا ومع أمريكا ومع الدول العربية ومع غيرها على حد سواء، لأن المصالح المشتركة هي بما يعود على الشعوب بالنفع والفائدة، وليس صناعة أحلاف سياسية أو عسكرية لا فائدة منها.
ولذلك ينبغي النظر إلى اللقاء الثلاثي المقرر في الأستانة في 6 فبراير الحالي بين روسيا وتركيا وإيران على أنه لقاء لتصحيح الأوضاع في سوريا والمنطقة معاً، وبالأخص في تثبيت آلية الرقابة على وقف إطلاق النار في سوريا، الذي تنتهكه المليشيات الإيرانية مرارا، وتحاول فرض أمر واقع قبل المفاوضات السياسية في جنيف او غيرها.
وهذه الأهداف مطلوبة من مؤتمر القمة التركي الروسي في الشهر المقبل أيضاً، ليكون مرحلة جديدة في التعاون المتبادل بين الدولتين أولاً، ولكنه مطالب أكثر أن يأتي بافاق جديدة لحل مشاكل المنطقة، وفي مقدمتها المشكلة السورية، فروسيا أدركت الآن أن التعويل على القوة العسكرية وحدها مستحيل لكل الأطراف، وبالتالي فلا بد من أن تصغي روسيا للمواقف التركية والعربية الخليجية والمعارضة السورية للحل في سوريا، فالوجود الإيراني في سوريا وجود طارئ وغريب ومستهجن وعدواني، ومحاولة روسيا جعل نفسها طرفا محايدا وليس قاتلا للشعب السوري لا بد ان يكون له ثمن، وهو تصحيح ما أفسدته روسيا في سوريا، من خلل في التوازن العسكري ضد المعارضة السورية، وذلك بان يكون الحل السياسي بما يعيد سوريا دولة عربية، وليس ممرا طائفيا يربط بين طهران وبغداد وبيروت، فبقاء المليشيات الطائفية الإيرانية في سوريا لن يضمن الاستقرار لسوريا أولاً، ولا لروسيا ثانياً، ولن يضمن الاستقرار لكل من يبحث عن مصالح اقتصادية فيها أيضاً، ويبقى التاريخ حكما على كل من أجرم بحق هذا الشعب والأمة.
المصدر : القدس العربي