لم تستفق غالبية الأميركيين من مهزلة نجاح دونالد ترامب في انتخابات رئاسة الجمهورية حتى فوجئت به رئيساً من طراز آخر: فج وهجومي وشعبوي وانتقامي ووقح بدرجة لم ترها البلاد منذ عهد الرئيس أندرو جاكسون (١٨٢٩-١٨٣٧)، سابع رئيس للولايات المتحدة ومؤسس الحزب الديموقراطي الذي عرف أيضاً بأسلوبه الشعبوي والهجومي. إلا أن ترامب يأتينا في عصر آخر، عصر الاتصالات الآنية والاستهلاك الإعلامي والإنترنتي الكاسح، مما يعطي لشعبويته وفجاجته انتشاراً أوسع وصدىً أكبر. وهو إلى ذلك راغب بذلك، مرتاح إليه لأنه بالأصل شخص يكره التواضع ويسعى لأضواء الشهرة بكل ما أوتي من أساليب. والآن وقد تربع على أعلى كرسي سياسي في العالم، فهو يستخدم أساليبه نفسها في الهجوم والوقاحة والمباهاة والتهور في اتخاذ القرارات ورفض العودة عنها، بل تبريرها بحجج واهية وفي غالب الأحوال بالكذب الصريح، من نفس النوع الذي أسمته مستشارته كيليان كونواي في تبريرها لكذب مستشاره الصحافي شون سبايسر، بـ «الحقائق البديلة».
ترامب في أول أسبوعين من رئاسته أصدر عدداً كبيراً من المراسيم الرئاسية التي قلبت الأمور رأساً على عقب في شتى مجالات الحياة العامة والسياسة العالمية والعلاقات الدولية. لكنه كان محافظاً في إصدارها على الوعود التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية لكسب أصوات جماعات اليمين المتطرف والمحليين الانعزاليين والعنصريين ورجال الطبقة الوسطى البيض الذين خسروا في العقدين الأخيرين الكثير من نفوذهم في التراتبية الأميركية. فهو في كل يوم تقريباً يظهر في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض ببذلته الزرقاء الداكنة وكرافتته الحمراء محاطاً ببعض من أركان إدارته أو مؤيديه ومستشاريه الأقربين، ويوقع على مرسوم رئاسي جديد ومحير، ويترك للعالم مهمة التعامل مع الوضع الجديد والصعب الذي خلقه بجرة قلم.
ثم يأتي في نهاية الليل لكي يغرد على حسابه في تويتر (لديه 3،23 مليون متابع) زاجراً منتقديه ومتوعداً إياهم بالعواقب التي أصبح يمتلك مفاتيحها، أو مستهيناً باستطلاعات الرأي العام وتظاهرات المحتجين ومقللاً من أهمية انتقادات الزعماء العالميين الذين أصابهم بعض من رذاذ تهوره وجنوحه إلى المبالغة وتجاهل الأعراف والمواثيق الوطنية والدولية.
شبه الكثيرون ترامب ببعض زعماء الفاشية أو دكتاتوريي العالم الثالث أو حتى الملوك المطلقين من الزمن الغابر. وهو ربما كان كذلك، وإن كان في تهوره وسوقيته لا يشبه أحداً من سابقيه من الحكام الشموليين الذين حافظوا عموماً على صورة صارمة بل واحدية في صرامتها، وإن شاركوه في اعتقادهم بنجاعة آرائهم بغض النظر عن النتائج حتى لو كانت كارثية. لكن ترامب في الحقيقة يشبه أكثر ما يشبه ملكاً مطلقاً خيالياً من تراثنا القصصي العربي، الملك شهريار أحد طرفي قصص «ألف ليلة وليلة». هذا الملك المطلق الذي اكتشف أن زوجته تخونه فتحول مباشرة، وفق الرواية، إلى غول قاتل يتزوج فتاة بكراً كل ليلة ويقتلها في الصباح، إلى أن جاءته شهرزاد بحيلتها الماكرة بأن تقص عليه قصةً غرائبية تشده كل ليلة ولا تنهيها عندما يطلع الصبح، لكي تبقى على قيد الحياة، وتكمل القَص في الليلة التالية. وبعد الألف ليلة كان الملك السفاك قد استكان ووقع في غرام شهرزاد، وانتهى بأن تزوجها وتوقف عن قتل النساء اعتباطاً. وتنفست نساء المملكة الصعداء، وربما رجالها أيضاً.
دعونا لا نتوقف طويلاً عند تفاصيل حبكة القصة التي تنضح تمييزاً ضد النساء واستهانةً بهن وبحياتهن ورغباتهن مما يظهر في كل تفصيلة سردية، ولا عند التعامل مع إجرام شهريار على أنه مفهوم أو حتى ربما مقبول، فلهذه الشجون مكان ومجال آخر. لكن دعونا هنا نحاول، بشطحة رمزية حقيقية، أن نتلمس أوجه الشبه بين تعامل شهريار ومملكته وترامب وجمهوريته. على صعيد شخصي هناك شبه كبير بين الاثنين: فهما نموذجان واضحان للرجل الفحل القوي والجشع جنسياً الذي يرى المرأة فقط من منظار الجنس ويتعامل معها على هذا الأساس، وإن كان واحدهما خيالياً ويعود إلى أزمنة غابرة قطعنا أشواطاً في الابتعاد عن عنصريتها وجنسويتها وانحيازها، والثاني رئيس أقوى دولة في التاريخ، والدولة التي ما فتئت منذ قرن تطرح نفسها كنموذج للتحرر الإنساني الذي ينبغي على العالم الاقتداء به. لكن للتشابه بين الرجلين أبعاداً مجازية أخرى وأخطر على فهمنا لحقوقنا كمواطنين معاصرين في الولايات المتحدة نفسها وفي هذا العالم في شكل عام، بما أن عالمنا مترابط وما يحصل في الولايات المتحدة يؤثر في شكل مباشر على أمن العالم ورفاهيته وحريته.
إذا كان هناك ما يميز ترامب عن سابقيه من رؤساء الولايات المتحدة فهو غوغائيته وتهوره في قراراته التي يصدرها تباعاً مع نهاية كل يوم ويعقب عليها ليلاً عبر تويتر. وهو كذلك لا يبالي تماماً بقانونية قراراته ولا يتوانى عن تسفيه أي اعتراض عليها على أسس دستورية أو قانونية، حتى أنه تخلى عن كل قواعد الأدب عندما أشار إلى القاضي جيمس روبرت بـ «هذا المدعو بالقاضي»، عند تعليقه على قرار روبرت الجريء بوقف تنفيذ مرسومه الرئاسي القاضي بمنع دخول مواطني سبع دول عربية وإسلامية، بغض النظر عن قانونية أوراقهم. وترامب كذلك يتعامل مع قرارات وقوانين الرئيس السابق باراك أوباما على أنها تجاوزات وانحرافات ينبغي التخلص منها فوراً وبحس انتقام واضح، كما انتقم شهريار من نساء مملكته جميعاً بسبب إحساسه بخيانة زوجته (طبعاً لا تتحدث القصة أبداً عن خياناته هو المتكررة كما كان واقع الملوك في تلك العصور).
لعل شهرزاد ترامب اليوم تكون النظام القضائي الأميركي الذي أظهر في الأيام القليلة الماضية تماسكاً ونزاهة واضحين على رغم وقاحة ترامب. فبالإضافة إلى روبرت، القاضي الفيديرالي في سياتل بولاية واشنطن، هناك قضاة ومدعون عامون في أربع ولايات على الأقل، ماساتشوستس وفيرجينيا وواشنطن ونيويورك، رفعوا دعاوى ضد الإدارة الأميركية تطالب بإلغاء القرار الرئاسي المجحف لمخالفته القانون والدستور. وحتى محكمة الاستئناف الفيديرالية في سان فرانسيسكو التي لجأت إليها الإدارة لإلغاء قرار قاضي واشنطن، رفضت الاستئناف على أسس قانونية ومنهجية. أي أن هناك في نظام الولايات المتحدة القضائي من يستخدم القانون والدستور للدفاع عن الحقوق العامة، كما هو مفروض فيه، مثلما استخدمت شهرزاد السرد والغرائبية والقص للدفاع عن نساء بلادها ضد طاغية أهوج وانتقامي ومتهور.
المصدر : الحياة