وسط فيض من التكهنات التي لا تستند إلى أرضية صلبة، يمكن البناء عليها، عاد الحديث مجدّداً حول احتمال تدشين الأردن منطقة حدودية آمنة في جنوب الجارة الشمالية المثخنة، ومن ثمّة إيجاد واقع ميداني، له ما بعده في البلد المستباح أرضاً وجواً وحرمات، وذلك على خلفية الغارة غير المسبوقة لسلاح الجو الأردني ضد مراكز تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، في جنوب شرق بادية الشام، بتنسيق مسبق، على الأرجح، مع روسيا المهيمنة على السماء المزدحمة بمختلف أنواع الطائرات المغيرة وجنسياتها.
تعزّزت هذه التكهنات مع الزيارتين المتزامنتين للملك عبد الله الثاني إلى موسكو وواشنطن، على التوالي، وتعمقت أكثر من ذي قبل مع رواج فرضية قوامها أن الأردن قد غير سياسته، أو ليّن موقفه على الأقل، وتبنى وجهة نظر متساوقة مع التطورات التي بدأت الأزمة المديدة تشهدها في الآونة الأخيرة، خصوصاً بعد معركة حلب، وهو تغير بدا متماهياً مع رؤية موسكو المصممة على إنجاز حل سياسي، يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الميدانية المترتبة على تلك المعركة، وما رافقها من استدارة تركية مواتية، أيضاً، لوجهة النظر الروسية.
والحق أن فكرة المنطقة الآمنة في الجنوب السوري ليست طارئة أو جديدة، على الأقل في الإعلام المحلي، ولدى بعض الأوساط الصحافية والسياسية غير الرسمية التي ناقشت الفكرة، وألحت عليها في بعض الأحيان، بعد أن تفاقمت ظاهرة اللجوء السوري في بلد شحيح الموارد، وقلّت المساعدات الدولية، واتضح أن الأزمة طويلة، إلا أن التعقيدات التي تنطوي عليها إقامة المنطقة الآمنة، والمحاذير التي تحيط بها، ناهيك عن الهدوء النسبي قرب الحدود المشتركة، على مدى عام وأكثر، أدخل الفكرة المعقدة في طور من السبات العميق.
غير أنه ما إن تحدث الرئيس الأميركي الجديد عن نيته إقامة مناطق آمنة في البلد الذي يصدر اللاجئين إلى أوروبا ودول الجوار بغزارة، وطلبه من وزارتي الدفاع والخارجية والوكالات الاستخبارية دراسة الوضع، حتى تجدّد الحديث القديم بصورة أوسع من قبل، لا سيما في الأردن الواقع في منتصف المسافة السياسية الضئيلة بين روسيا وأميركا، إلى حد رأى فيه مراقبون، متشجعون من نجاح المنطقة التركية في الشمال السوري، أن الجيش العربي الكفوء، المتماسك وحده في المشرق العربي، بات قاب قوسين من إطلاق درع اليرموك، تيمناً بدرع الفرات.
في هذا السياق الذي تحكمه جملة طويلة من الاعتبارات الذاتية والموضوعية، فضلاً عن التطورات السياسية والعسكرية المتلاحقة في البلد الذي تشرف فيه الثورة اليتيمة على إتمام سنتها السادسة، وفي ظلال موقفٍ رسميٍّ، لا يفصح عن نياته السياسية في العادة، ينبغي تقليب فكرة المنطقة الآمنة هذه من عدة جوانب رئيسة، لبيان مدى واقعيتها العملية، وفحص حظوظها المحتملة، بالاحتكام إلى سلسلة من المعطيات الناظمة لمواقف بلد تتسم سياساته الخارجية بالتحفظ والحذر، لا يقطع مع طرف، ولا يجازف، وينحو منحى الاحتفاظ بكامل خطوطه وعلاقاته مفتوحة مع المحيط الإقليمي المجاور.
في واقع الأمر، ليست لدى الأردن مصلحة حيوية أو ملحة، من وزن تلك المصالح التي تملي نفسها على الدول الإقليمية، كما هو الحال لدى تركيا، ضرورة التحرك الاستباقي العاجل، لاحتواء المخاطر المحتملة، أو درئها سلفاً، سواء لجبه تهديدات داخلية نابعة من فسيفساء طائفية ومذهبية لا وجود لها أصلاً، أو لمواجهة تدخلات خارجية محدقة، بما في ذلك خطر الإرهاب الذي ليست لديه حواضن اجتماعية أردنية يعتد بها، وإن كانت لديه مراكز وراء الحدود الشمالية والشرقية، يمكن صدها في عقر دارها من خلال عمليات جراحية محدودة وخاطفة، على غرار العملية الجوية أخيرا.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، في ما يخص المناطق الآمنة هذه، فليس لدى الأردن ما لدى الأتراك مثلاً من هموم كردية انفصالية طاغية، فرضت على أنقرة جملة من الاستدارات والمقايضات والتحالفات المؤقتة، لجبّ خطر قيام كيان حدودي، قد يتحول إلى ملعب لحزب العمال الكردستاني المحظور، المتورّط في حربٍ داخلية لها كل سمات العمل الإرهابي والنزعة الانفصالية. كما ليست لدى الأردن أيضاً مطامع جغرافية أو ادعاءات تاريخية، كالتي قد تكون مضمرة وراء المنطقة الآمنة التركية، تغري البلد الصغير باهتبال فرصة سانحة لضم أجزاء من الأراضي السورية المستباحة.
وعلى الرغم من أن لدى الأردن نفوذ لا يستهان به في أوساط عديدة من فصائل المعارضة المرابطة في حوران وأطراف الجولان، إلا أن انفجار الموقف العسكري أخيرا في درعا، بعد ما يشبه هدنة واقعية مديدة، يفيد بأن الأمور لم تعد على ما يرام، إن لم يكن هناك تزعزع ما وقع في مجرى العلاقة الصامتة مع الجبهة الجنوبية، وذلك على العكس تماماً مما هو عليه الحال في العلاقات العلنية الوثيقة بين تركيا ومجموعة من الفصائل السورية الشمالية التي تتماشى مع استراتيجية أنقرة على طول الخط، وتستجيب لتكتيكاتها السياسية والعسكرية، على نحو تشي به مجريات معركة درع الفرات المستمرة منذ نحو نصف سنة.
على هذه الخلفية، لا تبدو المنطقة الآمنة، بالنسبة للتفكير الواقعي المحافظ في الأردن، منطقة تغري بالمجازفة على المستوى الرسمي، ولا تبعث على الحماسة على المستوى الشعبي، نظراً لانتفاء الدافعية الذاتية، والافتقار إلى المصلحة المباشرة، ولا سيما أن الواقع السوري تحول إلى حقل ألغام واسع، وبات خارجاً عن نطاق السيطرة والتحكم، حتى من جانب الدول الكبرى، فما بالك بالدول محدودة الموارد، والمجتمعات ذات الحساسية المفرطة إزاء تحمل تكاليف مادية وبشرية، لا يمكن هدرها من دون مسوّغ وطني قوي، أو تبريرها تحت شعار الحرب الاستباقية، أو تسويقها باسم الحرب على الإرهاب.
غير أن هذه المقاربة المتشككة باحتمال إقدام الأردن على إنشاء منطقة آمنة داخل الأراضي السورية، استناداً إلى تفاهمات غير مكتوبة مع روسيا، وربما على الرغم من إرادتها، نقول إن هذه المقاربة تتلاشى من تلقاء نفسها، وتفقد كامل أهميتها، إذا ما طورت الولايات المتحدة الأميركية موقفها الملتبس حيال الحالة السورية، وشرعت في العمل على تأسيس مناطق يحظر فيها تحليق الطائرات الحربية. إذ بدون تعاون حثيث مع بلدٍ يمكن الاعتماد عليه مثل الأردن، صديق قديم وموثوق به من جانب الدولة العظمى الوحيدة، فإنه يصعب تصور قيام واشنطن بمثل هذه المغامرة المحسوبة بدقة، بمعزلٍ عن منطقة آمنة تحت رعاية أردنية.
المصدر : العربي الجديد