مقالات

عبد الناصر القادري – ” كمليك ” يا سوري

(معاناة السوريين في استخراج بطاقة الحماية المؤقتة التركية)

إشكالية الدور  

يخرج سيجارة من علبة السجائر ويعطي من أمامه ويشعل له وهو يتمتم ” دخن وفش خلئك ” ، لم يعتد السوريون أن يلتزموا بالدور من قبل، هكذا رباهم نظام البعث لخمسين سنة مضت بأن لكل شيء دور ليس بالضرورة أن تقفوا وتنتظروا عليك أن تصل لأول الدور بأي طريقة وتنهي معاملتك ؛ أو مشكلتك ؛أو شراءك فوراً ببساطة ادفع بالتي هي أحسن ” رشوة ” حتى لا تزعج نفسك بالوقوف أو قل للموظف أنا من طرف فلان ، حتى على دور الخبز كان لحرف القاف صوته وفعله، ولكنها بلاد الأتراك التي أجبرت أغلب السوريين على فعل ذلك وإن كانوا يفعلونه بسخرية واستهزاء تارة، وبجدية الموقف تارة أخرى.

يتدافعون من أجل رقم لجوء جديد، كانت ورقة الضيف أو اللاجئ أو ما تسمى ” الكمليك” تحمل رقماً يبدأ بـ 98 ثم أصدرت الداخلية التركية قرارات بأن يصبح الرقم 99 ووضعوا رابطا على شبكة الانترنت يمكّن أي شخص من استبدال رقمه بسهولة، لكن الرابط أوقف بعد فترة وصار في كل ولاية بناء مخصص لاستبدال “الكمليك” القديمة بأخرى جديدة.

يبدأ توافد الناس في الساعة الخامسة ما قبل الفجر إذا يطلع الصُبح في اسطنبول ما قبل الثامنة بدقائق في اليوم الصحو ويبقى الجو رمادياً غائماً في أغلب الأيام. مكتوب على الباب الرسمي للدائرة الحكومية، مدخل الإخوة السوريين من الخلف.

يتهامس الوافدون من آلام الحرب كأنها مدرسة قديمة أو سجن الأجانب ربما قال آخر؛ الدائرة الجديدة التي حُولت ووضع عليها أسلاك شائكة وغرف حرس وكاميرات مراقبة، مكتوب على الباب الخلفي الحديدي الأسود الكبير ” لا تجلبوا أطفالكم معكم ” وإن كان في باحة الدائرة يوجد أراجيح وألعاب يستخدمها الآباء والأمهات لتسلية أبنائهم وإدخال جو من المتعة على أطفال لا يعرفون سبب القدوم إلى هنا أصلاً ولا يعرفون عن سوريا سوى اسمها ولعنات يومية على من يدمرها.

يقف شرطي يجيب على أسئلة الوافدين الجدد، ويدلهم على الدور بكل أجوبته، قفوا على الدور هناك ويشير بيده إلى مئات يقفون بشكل صفوف وعلى الطرف الآخر عشرات النساء المتعبات من طول الانتظار وتفرقهن عن أزواجهن أو آبائهن.

صارت الساعة التاسعة وخمس وأربعون دقيقة صباحاً بالتوقيت المحلي لمدينة اسطنبول، وربما بالتوقيت العُمري للاجئ السوري. الشرطي يرتدي قفازات طبية وبيده جهاز اللاسلكي، بعد برهة يظهر زميله يرتدي سترة سوداء تنم أنه يعمل في المخابرات وليس شرطيا عاديا، ذو منكبين عريضين وأيدٍ كذلك يضع كمامة بيضاء على فمه عندما يُدخل أفواج الناس ويفتِشهُم.

بدأوا أولا بإدخال كل النساء الموجودات حاول بعض الرجال والشباب التسلل معهم لكن أغلبهم فشلوا، إذ لم يقتنع عشرات من الأشخاص بجدوى الصف مشاغلهم وأعمالهم تحتم عليهم أن لا يقفوا ضمنه بل يقفون على جنب وفي أي فرصة سانحة يحاولون الدخول، يناقشون الشرطي بتركية غير مفهومة تماماً، وبعضهم يستخدم لغته التركية الجيدة في إقناعه بأحقية دخوله فوراً لكن عبثاً فالشرطي لا يقبل.

تقوم شرطية ترتدي ثيابها الرسمية، بدلة سوداء وقميص أبيض ذات وجه مدور وشعر أجعد أضافت له شُقرة، ليست رشيقة تماماً مربوعة الطول، ترتدي قفازات كزميلها تفتش السوريات اللواتي قدمن للحصول على ورقة الحماية المؤقتة كما كُتب عليها.

الاتحاد الأوربي وتركيا!

يتطاول الشباب ويحاول العجزة فعل ذلك ليرون من دخل تراقب عيونهم كل شيء، ويقولون بعيونهم لعله اقترب دورنا، يعود الحديث بين بعضهم جئت لتحصل على إذن سفر يقول له لا بل للحصول على كمليك، من أين أنت؟ من حلب، وأنت؟ من ريف ادلب، كنت في ألمانيا ولكن لم تعجبني تلك البلد تركيا أفضل! يشارك آخرون في الحديث رجلٌ في منتصف الثلاثين له شاربٌ خفيف وحليق الذقن يرتدي مانطو أسود طويل لكنته حلبية يقول نعم تركيا أفضل بكثير، لا يمون الرجل هناك على طفله إن أدبه أو ضربه قد يحرمونه منه، أيضاً لا تستطيع التحكم بزوجتك تتفتح هناك وتتمرد عليك، يأتي صوت ثالث من صف خلفي الكثير من حالات الطلاق في أوربا بين السوريين الوضع هناك ليس جيدا.

الدخول العظيم

الناس ما زالوا يتوافدون والأعداد تجاوزت الـ 500 شخص وإن ما زلنا في الساعات الأولى من الصباح، أحدهم قال إن ابن عمه كان هنا البارحة وقد أدخلوا 50 شخصا في كل دفعة، آخر قال إنه قدم البارحة وبقي منذ الصباح حتى الساعة الثالثة ثم دخل لينتظر مجدداً وفي الخامسة انتهى الدوام ولم يستفد شيئاً. أحاديث كثيرة تسمعها هناك منها مفاجئ ومنها غريب.

خرج الشرطي وقرر إدخال أربعة تلو أربعة كانت الساعة تقارب الـ 11، يتعرضون للتفتيش باليد دون أي أجهزة كشف الكتروني مثل الدوائر الأخرى وفعلا دخل الـ 300 شخص تقريباً إلى داخل المبنى واصطفوا خلف بعضهم البعض في مدخله الضيق لا يوجد أي رائحة كريهة أو سيئة كمؤسسات سوريا المشابهة بل البناء نظيف، أول ما يشاهده الداخل أوراق بيضاء كُتب عليها” إن كنت حصلت على ورقة الحماية من ولاية غير اسطنبول لا يمكنك استبدالها من هنا “. وأيضاً إذن السفر باتجاه السهم (حيث يحتاج حامل الكمليك إلى إذن سفر إن أراد التنقل ضمن تركيا أو خارجها).

 يصعدون جميعا إلى الطابق الأعلى حيث يتم إدخالهم إلى غرف كبيرة بحجم قاعات الجامعة فيها مقاعد خشبية تتسع لثلاثة أشخاص في كل منها وبجانب كل غرفة كبير واحدة تشبهها حتى امتلأت ثلاث أو أربع منها حيث يمنع الخروج من القاعة للتأكد.

جاء شرطي آخر فيه ملامح تركية أكثر يرتدي لباس الشرطة الأسود ووضع عقدة عبوس بين عينيه لا يتقبل أي سؤال ويردد كثيراً لا أعرف، رتب كيفية الخروج من الغرفة عندما يحين الدور ثم ذهب، الغالبية ملتزم بمكانه تعارف كيفي يجري بين البعض صمت بين آخرين، أحاديث الثورة الطيبة والاقتصاد العالمي والسياسة وترامب وداعش والفصائل المتناحرة وطريق أوربا والكامب والبلم واليونان والكمليك وإذن السفر والظروف الصعبة وآجارات البيوت، تستمع لقضايا أقل ما يقال عنها جدلية بين هذه الجدران.

كعكة سميت

بعد نصف ساعة دخل شخص فتح خزانة كانت في صدر القاعة فيها بسكويت وماء وجلب معه ساندويش وسميت ومأكولات تركية أخرى وشاي ونسكافيه ، ظن البعض أنها من حسن الضيافة التركية أو تقدمة مركز الهجرة لأن اللاجئين قد يبقوا لساعات طويلة فلا بد من شيء يسد رمقهم حتى يخرجون ، ولكنها كانت للبيع وفعلا تجمهروا حول البائع واشتروا منه الكثير.

الساعة الـ 12 وهي ساعة الغداء في الجمهورية التركية وهنا لابد من انتظار هذه الجموع لساعة كاملة حتى ينتهي الموظف أو الموظفة من وجبته وشرب سيجارته المقدسة مع كأس من الشاي المخمر مع قطعتي سكر أو بدونها كما يفعل كثيرون ومن ثم معاودة العمل مجدداً.

صارت الساعة الثانية والنصف ظهرا قبل ذلك بوقت قليل دخل الشرطي العبوس واختار الأكبر سناً دون أن يسمح لأي أحد بالسؤال أو الحركة وأخذهم نحو نهاية الانتظار المتعب ليستبدلوا أوراقهم بأخرى جديدة، في تلك القاعة التي تعج بالناس كانت التدفئة جيدة وبقربها على الحائط كتب كثير من الأشخاص ذكرياتهم كما يفعلون في سجون سوريا، مثل ذكرى أبو كنان 16/12/2016، الله أكبر ومحمد رسول الله، مظلومين ياناس، الله أكبر عالظالم…

7 ساعات انتظار

فجأة دخل موظف يرتدي سترة زرقاء بجسم طويل وكأنه يعمل في الدائرة ولكنه من جنوب تركيا فهو يتكلم العربية المكسرة ونظر في أوراق المنتظرين بأن من استخرج هويته من خارج اسطنبول فليغادر ومن استخرجها من المناطق التالية … فمركزه في القسم الآسيوي من اسطنبول ، بعد انتظار أكثر من 7 ساعات يخبرهم أنه لا داعي لانتظاركم أكثر ، تشي عيونهم بأنه لو نستطيع أن نضربك على هذا الخبر المختل لما لم تخبرونا من الخارج ؛ تعالت الأصوات ، لما لم تكتبوا على الأبواب الخارجية ، يقول طالب جامعي تواجد هناك مع المنتظرين لم لا يكون هناك موقع إلكتروني يحجز هؤلاء دور عبره ، ولكنها بيروقراطية الدول، وعذابات السوريين والمهجرين، على اللاجئ أن يكون لاجئاً جيداً وحسب ، وعلى الغريب أن يكون مؤدباً مهما حصل وسيحصل معه وإن ضربوه بالسوط وسرقوا ماله (يا غريب كن أديب ) حتى وإن تعرضت للإهانة والذل لا مشكلة ففوراً هناك مستعدين لأن يحاكموك بتهمة التآمر عن تركيا التي ينهش فيها القريب والبعيد ، حتى لو كان نقدك لتحسين الحال وإصلاحه.

قبل الساعة الثالثة عصراً بدقائق بدأت الجموع تدخل بالترتيب العشوائي وليس المحترم عبر خمس أو ست غرف في كل واحدة أربعة موظفين مع مترجمين اثنين، فجأة يدخل عجوز يحمل بيده ورقة عليها موعد طبيب ، استأذن من البعض أن يتجاوز الدور لأنه مضطر جداً فتعالت الأصوات أن احترم الدور يا عم ، رغم أنّ كل من صرخوا عليه لم يكونوا ممن احترم الدور بل تجاوزه بصفاقة كبيرة ، عاد الطالب الجامعي مرة أخرى وقال هي تربية البعث التي لم تضع ببعض السوريين عبثاً ، وطلب من العجوز أن يأخذ دوره وفعلاً حصل.

في غرفة الاستبدال ذات الحجم الرحب، كُتب على الباب شروط إذن السفر بلون أخضر فسفوري من المستحيل قراءته بسهولة (المطلوب لإذن السفر: الكمليك – جواز السفر – فيزا الدولة – بطاقة الطائرة – سبب الذهاب..).

تستبدل ورقتك بدقائق من موظف لا يبتسم وإن أكثرت من الثناء والشكر عليه ربما أكل الملل ابتسامته، ثم تغادر لترى مئات الأشخاص ما زالوا ينتظرون في الخارج ولا يعرفون إن كانوا سيصبحوا لاجئين برقم جديد أو لا..

هل تستحق العناء ؟

تمكنك الكمليك من دخول المشفى بلا رسوم وإن كان غالبية السوريين يفضلون المستوصفات السورية ذات الأسعار البسيطة بسبب اختلاف اللغة وصعوبة الشرح في المستشفيات التركية، ومن استئجار بيت ستدفع أجرته طبعاً، فتح عداد غاز، كهرباء، ماء، وخط انترنت أيضاً فأنت تحمل رقماً وطنياً مثل كل الشعب التركي.

لا يمكنك عبر الكمليك اليوم فتح حساب بنكي بغالبية البنوك التركية وإن حصل فعبر الفساد والرشوة، ولا يمكنك التنقل في تركيا عبر البطاقة، ولا السفر إلى خارجها، لا يستطيع الموظف شرح مهمة هذه الورقة بالضبط فهو لا يعرف ماهيتها جيداً سوى أنه تحمل رقماً وطنياً، لكنه سيقول لك في أغلب معاملاتك اليومية ” سيستم يوك” أي لا يوجد نظام أو النظام معطل اليوم.

لا تنتظر

يمكنك ألا تنتظر في الدور، إذ ينتشر على الفيسبوك مئات الصفحات التي تمكنك من استخراج الكمليك وجميع الأوراق الأخرى بطرق ربما ملتوية عبر موظفين فاسدين في الدوائر الحكومية التركية، قد يظهر صوت يقول أنّ السوريين علموا الأتراك الرشوة، يجيب عبد الرحمن (عامل سوري في تركيا) ليس صحيحاً بل هناك فاسدين في كل مكان وتركيا مليئة بهم، إذا لا يستطيع السوري دفع الرشوة بدون وسيط له علاقة قوية وجيدة مع الموظف التركي المرتشي.

فعلاً على صفحة الفيس بوك أجرينا محادثة مع مكتب يقول إنه يستطيع استخراج كمليك بسعر 225 ليرة تركية للشخص الواحد أي قرابة الـ 60 دولار أمريكي، وتستطيع استلامها بنفس اليوم بانتظار نصف ساعة فقط!

تنويه: كُتب التقرير أثناء استبدال ورقة كمليك في مدينة إسطنبول بانتظار دام أكثر من 6 ساعات ويعتمد على شهادات حقيقة بشكل كامل.

وطن اف ام 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى