توقفت الجولة السابقة من محادثات جنيف 3 السورية عند نتيجة واحدة، هي وعدٌ قاطعٌ من المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا على عقد مؤتمر لاحق. برَّ الرجلُ، بعد عشرة أشهر، بوعده، وها هو يفتتح مؤتمر جنيف مجدّداً. جرتْ، بين المؤتمرَين، أحداثٌ كثيرة، وتمدّد النظام على مدن وقرى جديدة، ونزحت موجات بشرية ضخمة. وقام أفرادٌ مغامرون بتحرّكات عديدة، وبنيت منصات تفاوضية في موسكو والقاهرة وبيروت، جميعها ترغب بتمثيل السوريين في جنيف الجديد، أما الحدث الأبرز فهو ظهور اسم دولة كازاخستان، وعاصمتها أستانة التي استضافت مؤتمراً تمهيدياً، بموافقتين، تركية وأميركية، كرَّس روسيا عراباً للسلام في سورية، بعد أن كانت مجرّد وكيل عسكري مساند. وبدت كل تلك التحركات العسكرية والسياسية ممهدة لجنيف الحالي، وقاعدة أساسية للنتائج التي يمكن أن تخرج عنه.
يعتقد النظام، بلكنة موفده بشار الجعفري المتعجرفة، الشبيهة ببرود معادن الدبابات الروسية، أن بشار الأسد أصبح في منأى عن مطالبته بالتنحّي، وعلى مبعدة كافية من أخطار السقوط، وإن حصلت مثل هذه المطالبات في جلسات المؤتمر، فهي من باب رفع سقوف التفاوض، وهو أسلوبٌ تكتيكي يلجأ إليه المتفاوضون عادة، رصيده في ذلك عودة مدينة حلب إلى حضنه، وتقدّمه إلى تخوم الباب، وهي إنجازاتٌ تعتبر مهمةً على الرغم من انتكاساته في تدمر، وظهور هشاشةٍ في بنيته الداخلية، باختراق قاتل في المربع الأمني في مدينة حمص، وانشغال جاليته العسكرية الصغيرة في دير الزور بمناورة عناصر “داعش”، لكن البطاقة الأهم التي يضعها في جيبه هي مؤازرة سنده الروسي الذي يَعتبر طلب التنحّي غير واقعي، وقد تضاف إلى ذلك كله مواقف الأحزاب المتطرّفة اليمينية الصاعدة في الغرب، فوفدُه منفتح، ومنشرح الصدر، ولدى الجعفري ترسانة مختارة من التعابير الوطنية المخاتلة، يمكن إلقاؤها أو حتى بيعها، وقد تجد لها مصفقين كثراً بين أعضاء المنصّات التي حضرت المؤتمر نتيجة التطورات الأخيرة، وأصرتْ على الجلوس إلى جانب رئيس الوفد المعارض، نصر الحريري.
بعيداً عن المنصّات، لا يملك وفد المعارضة الأساسي، المختلط من السياسيين والعسكريين، إلا مطلب التنحي حالياً، فهو يرى وجود النظام بشكله الحالي، وعقلية الحروب الباردة التي يتحلى بها، سبب كل الكوارث، ويمكن تأجيل كل عمليات الإصلاح والبناء إلى ما بعد التخلص النهائي منه، وهو مطلبٌ لا يقلل من وجاهته تعددُ الوجوه المعارضة، وانقسامها إلى معسكراتٍ وجبهات، وطغيان الفكر الديني على مكوّنها العسكري، فهي استطاعت أن تتجمع ضمن وفدٍ موحد، وحصلت على دعمٍ من أطرافٍ متعدّدة، ساعد في تكتلها وتبنيها موقفٌ مقبولٌ ذو شكل وطني عريض. وقد تبنى هذا الوفد مطلباً مشابهاً في المؤتمرات السابقة؛ وما زال يحمل المطلب نفسه، ولديه وثيقة دولية مهمة، هي قرار دولي بانتقال سياسي ودستور جديد، لكنه الآن قد يواجه بطريقةٍ مختلفة، وربما من بعض المنصّات التي تحضر المؤتمر على أنها معارضة، الأمر الذي قد يُحدث بلبلةً تصرف الأنظار عمّا هو مطلوب من هذا المؤتمر حقاً.
لم يكن تأجيل المؤتمر ضمن خيارات دي ميستورا، بملامحه الباردة، وهو الذي أقصي عن اجتماعات أستانة، فقال بإيمانٍ كثير إنه لا يتوقع أي اختراقٍ في هذا المؤتمر، لكنه يعمل لتكثيف الجهود فقط، أو بعبارةٍ فيزيائية لبناء عطالةٍ كافيةٍ لتقود مسار المفاوضات إلى نقطةٍ نهائيةٍ، تصب في مصلحة السوريين.
تلزم لبناء العطالة كتلة كافية ومسار محدّد، وليس كتل كثيرة ورؤى متعدّدة، وما تفرزه العواصم من منصات يشي بمزيدٍ من التفتيت وتشعب المسارات إلى مزيد من الوجهات المتضاربة، وهذا أمر آخر، لا يستطيع دي ميستورا أن يتحكّم به، فهو مرهونٌ أكثر بعواصم الجوار وعواصم القرار، وكلنا يعرف أن مؤتمر جنيف الرابع لن يخرج بحل حقيقي، ونشارك دي ميستورا رؤيته، على ألا تستمر المنصّات بالتوالد الفطري، حتى يمتلئ وجه البحر الأبيض المتوسط بها.
المصدر : العربي الجديد