منذ ثلاثة أسابيع وحتى الأيام الماضية، تناسلت المقالات التحليلية التي تتحدث عن احتمال هجوم أمريكي على إيران، وجاء ذلك على خلفية تصريحات مسؤولين من البيت الأبيض، وعلى رأسهم الرئيس دونالد ترامب ضد طهران، بعدما أجرت في بداية الشهر الجاري تجربة صاروخ باليستي.
وكانت تصريحات بكلمات قوية ومنها «كل الردود مطروحة» كافية ليعتقد البعض في مغامرة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، ناسين معطيات الواقع الجيوسياسي التي تؤكد وتؤكد ما يلي: لن تهاجم الولايات المتحدة الأمريكية إيران الآن ولا مستقبلا؟ وعمليا كانت هناك هستيريا المقالات وعناوين الصحف، خاصة في العالم العربي، ومنها تلك المحسوبة على الصف السني، نعم أصبح الإعلام سنيا وشيعيا، ومع هذا التقسيم تضيع الرؤية الموضوعية للواقع، تدق طبول الحرب، ولا أحد تساءل بعمق: هل ترغب الولايات المتحدة في حرب جديدة؟ هل لديها القدرة على خوض حرب لن تكون سهلة في ظل التطورات الدولية، ومنها اشتداد خطر التوسع الصيني اقتصاديا وعسكريا المتضخم في صمت؟
إن الترويج لحرب من هذا النوع يدخل في إطار غياب رؤية موضوعية للواقع والفهم العميق لمعطيات الواقع الجيوسياسي (جيوبولتيك) في الساحة العالمية حاليا، وفي حالة إيران تقوم على عناصر منها: توجه الإدارة الأمريكية الجديدة، ثم التكلفة الباهظة والمتعددة للحرب مع إيران بالنسبة للقدرات العسكرية والدبلوماسية الأمريكية. ومن ضمن الأدلة ذات الدلالة الاستراتيجية القوية على عدم وقوع الحرب، هو استمرار إيران في تجاربها الصاروخية من دون اكتراث بالبيت الأبيض. والآن نتساءل: لماذا لن تخوض الولايات المتحدة حربا ضد إيران؟
في مقالات سابقة في «القدس العربي» حول الانتخابات الأمريكية، كتبنا أن البرنامج الرئيسي للإدارة الأمريكية الجديدة، خاصة الواقفين وراء دونالد ترامب يرمي الى تحقيق هدفين رئيسيين، يعتقدون أنهما يهددان الأمن القومي الأمريكي وهما: التقليل من الهجرة اللاتينية وخاصة المكسيكية حتى لا تتجاوز 10% من ساكنة الشعب الأمريكي، وتصبح خطرا حقيقيا على هوية هذا الشعب، ثم احتواء تمدد الصين العسكري والاقتصادي، حيث ترغب بكين في التحول الى زعامة العالم في ظرف عقدين أو ثلاثة عقود. هذا البرنامج تقف وراءه معظم القيادة العسكرية، هذه الأخيرة التي تمتلك مراكز تفكير استراتيجي تكون حاسمة في رسم مستقبل البلاد. وبالتالي ليس من باب الصدفة أن ترامب تحدث خلال الأسبوع الماضي عن مواجهة الهجرة المكسيكية كعملية عسكرية، كما أن مساعديه يطرحون مواجهة تمدد التجارة الصينية كحرب عسكرية. وعمليا، أقدم البيت الأبيض على الانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة مع دول الباسفيك، ثم يقوم بتعزيز جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية بـ 15 ألف موظف والبدء في بناء الجدار مع المكسيك.
في الوقت ذاته، منذ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، بدأ البيت الأبيض يقلل من حضوره في الشرق الأوسط، واستعرض أوباما هذا في حواره الشهير مع مجلة «ذي أتلنتيك» خلال مارس الماضي، الذي من عناوينه العريضة التي يجب استخلاصها هو «العرب لم يعودوا مهمين في الأجندة الأمريكية». لم تعد منطقة الشرق الأوسط مهمة كمصدر للطاقة، أو كمصدر للتجارة، وبالتالي فبوصلة الحروب أو على الأقل التواجد العسكري الأمريكي يدور مع بوصلة المصالح المستقبلية. وعليه، لن تخوض أي حرب مستقبلا في المنطقة، إلا إذا تعرضت لاعتداءات، وتبين أن دولة تورطت فيها، فوقتها ستلجأ إلى القصف البعيد وليس الغزو العسكري على شاكلة ما حدث في العراق.
ويبقى الأساسي هو الفكرة السائدة وسط الإدارة الأمريكية الجديدة، بل حتى التي سبقتها ومفادها أن «حرب العراق كانت من أسوأ القرارات في التاريخ العسكري الأمريكي»، ألحقت دمارا هيكليا بالمنطقة، وكذلك بالولايات المتحدة بعدما رفعت من المديونية ورفعت من نسبة الجنود المعطوبين جسديا ونفسيا، الذين يشكلون عبئا كبيرا في الوقت الراهن، بسبب نفقات علاجهم وتفكك أسرهم. وهذا الجانب عادة لا يأخذه بعين الاعتبار الباحثون والمحللون.
منذ حرب فيتنام، بدأت الولايات المتحدة تتجنب خوض أي حرب قد تسبب لها خسارة تفوق 2% من قدراتها العسكرية، أي فقدان الجنود والمعدات وتراجع مخزون القذائف. فالولايات المتحدة قادرة على محو إيران من الخريطة العالمية بسبب قوتها العسكرية، ولكنها ستفقد ما بين 15% إلى 20% من قدراتها العسكرية، في وقت تزداد الصين قوة وبعدها روسيا. واشنطن لن تقدم على حرب ستمحي دولة من الوجود، كما لن تقدم على الرهان بالدخول في حرب ستجعل مسافة التفوق الذي تحتفظ به مقارنة مع الصين يتقلص بشكل كبير. في الوقت ذاته، لن تغامر المؤسسة العسكرية بترك قرار الحرب في يد أي رئيس أمريكي بعد حرب العراق، حيث التقت لأول مرة إرادة قادة سياسيين، على رأسهم الرئيس وقتها جورج بوش، متأثرين بالروايات الدينية ومنها الحرب قد تسرع بعودة المسيح، مع معتقدات سيطرت على القيادة العسكرية.
وكانت النتيجة الكارثية المعروفة ومنها ظاهرة الإرهاب الحالية. وكان بوش يريد سنة 2006 شن حرب على إيران، لكن الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية عارضت، إلى مستوى أنها قدمت له تقارير مغلوطة جعلت أحد صقور المرحلة، وهو جون بولتون السفير الأمريكي في الأمم المتحدة، يقول «لقد نفذت الاستخبارات انقلابا ضد بوش». وكان سياسيون ومفكرون، من أمثال بريجنسي وبرينت سكرووكرفت اللذين عملا مستشارين للأمن القومي سابقا، الصوت الرافض للمغامرة ضد إيران والتحذير من انهيار الولايات المتحدة في حالة حرب مماثلة، بل وصل الأمر إلى تبني بعض المسؤولين أطروحة «التعايش مع إيران نووية». معطيات الواقع الجيوسياسي تقول بعدم شن الولايات الحرب ضد إيران حاليا ومستقبلا. وعليه، فالدول العربية التي مازالت تعتقد في المظلة العسكرية الأمريكية مطالبة بما يلي:
أولا، حوار عميق للتعايش مع إيران كقوة إقليمية في الشرق الأوسط تكون شريكا بدل عدو تساهم في تقدم وازدهار المنطقة.
ثانيا، في حالة استمرار تبني النهج الحالي تحت مبرر أن «إيران عدوانية وترغب في تشييع العالم العربي»، وقتها ضرورة الرهان على بناء قوة عسكرية واقتصادية قائمة على الموارد المحلية، وليس الاستيراد فقط، قادرة على خلق توازن عسكري حقيقي من دون مظلة أي دولة أخرى ومنها الولايات المتحدة، حيث قال رئيسها الجديد «دول الخليج يجب أن تؤدي فاتورة أي حماية عسكرية مستقبلا».
المصدر : القدس العربي