في الحياة الثقافيّة اللبنانيّة صوت غريب لم تستطع التجارب الكثيرة التي خطّأته أن تضعفه. إنّه صوت الدمج بين أمرين لا يندمجان: من جهة، برنامج مدنيّ وتقدّميّ يبدأ بمكافحة الرقابات ولا ينتهي عند تذليل الطائفيّة (وبعض من هم أشدّ تفاؤلاً وتسرّعاً يتحدّثون عن «إلغائها»!). ومن جهة أخرى، برنامج نضاليّ وعنفيّ مداره المشاركة المباشرة في صراعات المنطقة، وآخرها الحرب على السوريّين.
هذا الدمج المستحيل ربّما كان الشيوعيّون والقوميّون السوريّون، كلٌّ بطريقته، أوّل القائلين به. عند الشيوعيّين اندرج الأمر في صراع حركة التحرّر الوطنيّ ضدّ الاستعمار والإمبرياليّة، تبعاً للتأويل السوفياتيّ لهذه المصطلحات، وبما يخدم مصالح موسكو الاستراتيجيّة. عند القوميّين، ترتبط المسألة بكفاح «الأمّة السوريّة» النافية للكيان اللبنانيّ. البعثيّون الذين لم يكونوا مرّةً أقوياء في لبنان، كانوا تقليديّاً يدفعون في الاتّجاه ذاته غير معنيّين بـ «القطر» اللبناني.
هذا الوعي كان وبقي، في أحسن أحواله، وعياً مخدوعاً. ففضلاً عن قدرة الأطراف الخارجيّة على توظيفه والإفادة منه، لم يكن مطلب الانخراط في الحروب إلّا مطلب طوائف لا تقلّ طائفيّتها عن الطائفيّة المارونيّة، ولا تقلّ في سعيها إلى التمكّن عن السعي المنسوب إلى المارونيّة السياسيّة.
بدايةً، في الخمسينات والستينات، ارتبطت تلك الدعوة بالطائفة السنّيّة التي أغراها وزن مصر الناصريّة ثمّ بندقيّة المقاومة الفلسطينيّة عوناً في تمكينها الطائفيّ. بعد ذاك، باتت تلك الدعوة شيعيّة تراهن على وزن إيران الخمينيّة وسورية الأسديّة لإحراز التمكين ذاته. أمّا قتال إسرائيل فكان، ولا يزال، الذريعة التي تُستخدم، مرّة لأنّ إسرائيل عدوّ نظريّ (حتّى قيام المقاومة الفلسطينيّة)، ومرّة لأنّها عدوّ يقاتلنا (إبّان تلك المقاومة)، ومرّة لأنّها تحتلّ (2000-1978)، ومرّة لأنّها سوف تحتلّ ولا بدّ من أن تحتلّ (من التحرير إلى أبد الآبدين). وبعدما كانت الحجّة أنّنا جزء من المنطقة، فيما المنطقة تقاتل، لم نعد جزءاً من المنطقة حين بدأت المنطقة تسالم. هكذا صرنا جزءاً من منطقة أخرى عاصمتها طهران، فيما المنطقة غدت، وفقاً للأصوات الأشدّ بذاءة، «أعاريب».
بمعنى آخر، لا بدّ من إبقاء السلاح صاحياً.
في هذا، كان الوعي المخدوع لا يوفّر إلّا التأويل الأيديولوجيّ لمشاريع تحكّمٍ طائفيّة هي أشدّ من النظام القائم رجعيّةً ورقابيّةً وانحيازاً إلى أفكار متخلّفة في الحياة والثقافة والجنس. لكنّ الانخداع بدأ يصبح تواطؤاً مع مرحلة الانتقال من سنّيّة المشروع النضاليّ إلى شيعيّته. فحين نفّذت الأخيرة تصفية الأولى، ومعها المقاومة الفلسطينيّة في طرابلس والبقاع والمخيّمات (كما أسكتت بالعنف اللبنانيّين التابعين باسم الأيــديولوجيا لتلك المقاومة)، أبصر حتّى العميان أنّ الموضوع يقيم في مكان آخر: إنّه ليس المقاومة، بل موقع الطائفة في الداخل ونفوذ حليفها الخارجيّ. هذه الحقيقة عاد التورّط في سوريّة ليجلوها على نحو لا يقبل التأويل.
المخدوعون و/أو المتواطئون، الزاعمون لأنفسهم قوّة بصر وبصيرة، لم يبصروا. لكنّهم لم يبصروا شيئين آخرين: الأوّل أنّ كلفة البرنامج الاجتماعيّ للطائفة التي ينصرونها أكبر من مكسب التحرير، حتّى لو تحقّق كاملاً، أيّ بشموله على فلسطين التاريخيّة! المكسب المفترض خرافيّ طبعاً، فيما سيادة هذا البرنامج الباعث على الانحطاط ممكنة جدّاً، وهي ممكنة جزئيّاً بفضلهم.
أهمّ من ذلك هو الشيء الآخر الذي فشلوا في أن يبصروه: أنّ الحروب بذاتها، وعلى عكس ما تقوله الخطابات والأناشيد، مصنع لتسييد العنف والرقابة وتحكّم الرجل «القويّ» بالمرأة «الضعيفة» (والشهداء بالأحياء). «مصلحة الأمّة» و «مستلزمات المواجهة» عملت دائماً وتعمل دائماً ضدّ الحرّيّة والتقدّم. في لبنان تحديداً، إنّها تعمل أيضاً على تمكين الطائفيّة. على إخافة الطائفة غير المسلّحة من الطائفة المسلّحة. على إضعاف الإجماعات القليلة أصلاً الموجودة بين الطوائف.
إنّ تجربتي الحربين الأهليّتين في لبنان ما بعد الاستقلال، الحرب الصغرى في 1958 والحرب الكبرى في 1975 – 1990 لا تقولان إلّا هذه الحقيقة: الانخراط في الصراع الدائر في المنطقة يمهّد لحرب أهليّة تزداد معها نسبة التخلّف والتأخّر والطائفيّة وتقلّ نسبة الحرّيّة والتقدّم. دمج الاثنين هو تزويج فيل لنملة.
لهذا لا تكتمل الدعوة إلى رفع الرقابات وسلطات رجال الدين وفساد السياسيّين إلخ… من دون الدعوة إلى حياد لبنان، أو، على الأقلّ، إلى استعادة تلك الصيغة التي عُرفت بالهدنة وسكّنت الحدود اللبنانيّة – الإسرائيليّة كلّيّاً بين 1949 و1968. هكذا يكون الانتماء إلى المنطقة: لا نسبق العرب في الحرب، كما فعل «حزب الله»، ولا نسبقهم في السلم، كما حاول بشير الجميّل أن يفعل.
الأيديولوجيّون الذين يقولون غير هذا يكذبون. الصادقون هم الذين يقولون: لا يهمّنا لبنان، ولا موت الناس، ولا تصاعد الطائفيّة، ولا زواج القاصرات، ولا الرقابات الأخلاقيّة. قد نسمح بالتسلّي بهذه المسائل في الوقت الضائع، لكنْ، في النهاية، يهمّنا شيء واحد: أن يبقى السلاح في يد طائفتنا لمصلحتها ومصلحة النفوذ الخارجيّ الذي يخدمها وتخدمـــه. «حزب الله» صادق لأنّه، بطريقته، يـــقول هذا. حلفاؤه الذين يتستّرون على طائفيّته ودينيّته وتخلّفه، أو يقلّلون من أهميّتها قياساً بمقاومته، شيء آخر.
المصدر : الحياة