للمرة الثانية، منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة، يقوم دونالد ترامب بحركة ذكية لا تناسب الصورة الشائعة عنه، المعززة بتغريداته وبعض قراراته الفضائحية. كانت المرة الأولى حين أخبر ضيفه، الرئيس الصيني شي جين بينغ، على مائدة العشاء، عن تنفيذ ضربته لمطار الشعيرات التابع للنظام الكيماوي في سوريا، بصواريخ توماهوك، في الذكرى السنوية لميلاد حزب البعث في 7 نيسان الفائت. بهذه الحركة الجديرة بزعماء المافيا تمكن ترامب من دفع المندوب الصيني في مجلس الأمن إلى التخلي عن رفع اليد بالفيتو مع زميله الروسي، في التصويت على قرار مجلس الأمن الذي كان من المفترض، في حال تمريره، أن يسمح بتحقيق أممي في استخدام النظام للسلاح الكيماوي في خان شيخون، تحت البند السابع الملزم. كما تبلغ الرئيس الصيني بنوايا ترامب في المواجهة مع كوريا الشمالية، فبلَّغ قادة بيونغ يانغ بالرسالة الأمريكية، وانسلّ من تغطيته للدولة المارقة.
والآن تأتي الجولة الخارجية الأولى للرئيس ترامب مدروسة بعناية شديدة. فهي ستشمل كلاً من المملكة السعودية وإسرائيل والفاتيكان على التوالي. أي بكلمات أخرى مراكز الأديان السماوية الثلاثة: الإسلام واليهودية والمسيحية. هذه لفتة دبلوماسية ذكية تكمن وراءها حسابات سياسية مهمة. كون السعودية هي المحطة الأولى في هذه الجولة، وبالتالي مقصد أول زيارة خارجية للرئيس الأمريكي، فيه توكيد على ما سبق وأعلنه ترامب وفريقه، طوال الأشهر السابقة من العهد الجديد في واشنطن، عن إعادة العمل بالسياسة التقليدية للولايات المتحدة في علاقاتها بحلفائها التقليديين في المنطقة، وبخاصة السعودية والمنظومة الخليجية، في مواجهة المخاطر الأمنية المتمثلة بصورة رئيسية في إيران وامتدادتها العابرة للإقليم. لا شك أن الزيارة بحد ذاتها من شأنها أن تثلج قلوب السعوديين والخليجيين، بعد فترة قلق مديدة في عهد باراك أوباما الذي ختم رئاسته بتمرير قانون في الكونغرس بشأن محاسبة الدول الداعمة للإرهاب، ذلك القانون الذي أثار استياء السعودية لأنه من المحتمل أن يطالها بشأن مسؤوليتها المفترضة عن هجمات الحادي عشر من أيلول.
تدور تكهنات في واشنطن حول احتمال أن تسعى إدارة ترامب إلى التخفيف من الآثار المحتملة للقانون المذكور على المملكة السعودية. لكن الغاية الأهم، ربما، من الزيارة، هي إيصال رسالة قوية إلى طهران بشأن جدية الولايات المتحدة في مواجهة نزعتها التوسعية في الإقليم، عشية الانتخابات الرئاسية الإيرانية، على أمل أن تكون هذه فرصة أمام طهران لتعديل سلوكها العدواني الممتد من العراق إلى اليمن مروراً بسوريا ولبنان. المحطة الثانية للجولة هي إسرائيل، الطفلة المدللة لدى واشنطن، بصرف النظر عمن يحكم في البيت الأبيض. وتشير تصريحات متفرقة لأركان الإدارة والدوائر المقربة منها عن نية ترامب الخوض في تجربة السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني، كما فعل كل من سبقوه منذ عهد بيل كلينتون، من غير أن تطرح الإدارة، إلى الآن، تصوراً واضحاً بهذا الخصوص. قد يحق لنا أن نفهم من الوثيقة السياسية الجديدة لحركة حماس، في هذا السياق، أنها نوع من الاستعداد، بارتداء الملابس الرسمية المناسبة، قبل إطلاق الأمريكيين لمبادرة دبلوماسية جديدة.
ولا يمكن عزل هذا الموضوع عن سعي الإدارة الأمريكية إلى تشكيل تحالف موضوعي يجمع «الاعتدال العربي» وإسرائيل في مواجهة طهران. فالخوض في محاولة جديدة لتسوية الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني من شأنه أن يريح الحلفاء العرب في مواجهتهم لنفوذ طهران الإقليمي. على أي حال من المبكر الآن، قبل زيارات ترامب المبرمجة هذه، التكهن بما يمكن أن تطلقه من ديناميات جديدة في الصراع العربي ـ الإيراني من جهة، وصراع إسرائيل ضد حزب الله الإيراني في لبنان من جهة موازية.
أما في روما فقد يكون ترامب بحاجة إلى مباركة رأس الكنيسة الكاثوليكية، سواء في موقفه المهزوز في الداخل الأمريكي بسبب فضيحة علاقات فريقه مع روسيا بوتين، أو في إعادة الطمأنينة إلى حلفائه الأوروبيين بعدما بدا من سعي ترامب إلى تهميش دور الحلف الأطلسي من منطلق انغلاق أمريكا على ذاتها وفقاً للتصور الترامبي إبان حملته الانتخابية.
نرى، بالمقارنة، أن باراك أوباما خاطب العالم الإسلامي من القاهرة، فيما يقصد ترامب الرياض كمركز للعالم الإسلامي وفقاً لرمزية الزيارة. للاختيارين معانٍ متباينة. فعلى رغم حال التردي الشامل التي وصلت إليها مصر، في العقود الأخيرة، تبقى هي مركز العالم العربي بثقلها الديموغرافي والثقافي والتاريخي. وشهدت ساحة التحرير، في العام 2011، الذروة المكتملة البديعة لثورات الربيع العربي، وإن كانت زيارة أوباما التاريخية قد حدثت قبل ذلك بسنوات. بالمقابل، إذا كانت الرياض تحتفظ بمركزية دورها الإسلامي بوصفها عاصمة الأراضي المقدسة لدى مسلمي العالم، فهي في الحسابات السياسية الأمريكية القطب المواجه لطهران، إضافة إلى ثروتها النفطية وتحالفها المديد مع الولايات المتحدة.
دخل عدّاد فترة رئاسة ترامب المئة الثانية من أيامه في البيت الأبيض، وما زال الغموض يلف جوانب في توجهاته الخارجية. وفيما خص منطقتنا، نرى أن «الدوش البارد» الذي أنزله ترامب بالروس في زيارة وزير الخارجية تليرسون إلى موسكو، في أعقاب واقعة الشعيرات، قد أثمر، إلى الآن، ذهاب زميله لافروف إلى واشنطن للحصول على تزكيتها بشأن اتفاق آستانا الثلاثي حول «مناطق خفض التصعيد»، بعدما كان جون كيري قد أمضى سنواته الأخيرة في ملاحقة لافروف وبوتين بشأن سوريا، طمعاً في كسب رضاهما.
فهل ستكون الإدارة قدمت تصورها لحل الصراع في سوريا، كما طالبها الكونغرس بذلك، قبل بدء جولة ترامب الخارجية المرتقبة؟
المصدر : القدس العربي