في خضم الانتهاكات العنصرية التي تعرض لها سوريون في لبنان، برزت أصوات لبنانية تدعو السوريين إلى التعقل وعدم إبراز عنصرية مضادة، على وسائل التواصل الاجتماعي التي لا يملكون غيرها أصلاً، لئلا ينعكس ذلك انتهاكات أشدّ في حق المنكوبين. أصحاب هذه التحذيرات، بنواياهم الطيبة، يدركون ضعف السوري في لبنان، ويدركون أن العنصرية اللفظية تعبير عن الغضب ليس إلا، بما أن الغضب سلاح الضعيف وأول الانفعالات ظهوراً إثر الإحساس بالقهر، فتكون الخلاصة كأن المطلوب من السوري هو الصمت تحت طائلة التعرض لمزيد من الأذى، وهو تحذير فيه ما فيه من استباحة غير مقصودة بالتأكيد.
يُذكر أن السوريين منذ اندلاع الثورة تناولوا تنظيم الأسد بأشد النعوت، ولم يتراجعوا مع كل الوحشية الأسدية، ولم يطالبهم أحد بالتراجع لئلا يستفزوا آلة القتل أكثر فأكثر. لكن صورة السوري الصامت تتسلل اليوم لتملك جاذبية من قبل ضعفاء المنطقة، إذ يعي هؤلاء الضعفاء مغزى التطورات في المنطقة، وليس من شأنهم المباشر عدم التعايش مع بقاء الأسد، أو حتى عدم التعايش مع الأسدية في بلدان أخرى ما دامت الأخيرة موجهة إلى النازحين فحسب.
ليس القصد إطلاقاً تصوير السوريين كثوريين في محيط متخاذل، فهذا قول يعادل في تعسفه وصف نازحي لبنان بالإرهابيين من قبل شخصيات سياسية ذات وزن، ويعادل أيضاً وصفهم من قبل بطريرك موارنة لبنان بمنتزعي اللقمة من فم أبناء بلده. المشكلة هي في استسهال إطلاق الأحكام على السوريين في بلدان المنطقة، ما ينم عن استضعاف مطلق، إذ لا أسهل مثلاً من القول إن السوريين دمروا بلدهم، هكذا من دون إشارة «تبرئ ذمة القائل» إلى وجود عشرات الدول والتنظيمات المتحاربة على الأرض السورية.
لا أسهل أيضاً من وصم السوريين بحاضنة البعث، إذ يُهجى الأخير، وهل من دليل أقوى من بقائهم تحت حكمه نصف قرن قبل الثورة؟ وبالطبع لا أسهل من وصم فئة معتبرة منهم بحاضنة داعش، وهل من دليل أكثر إحكاماً من جعل الأخير مدينة الرقة عاصمة خلافته؟ بين هذا وذاك قد نأتي بأدلة من ممارسات عدة على أن السوريين تشربوا بأخلاق نظامهم، ولن نعدم المنطق الذي يقول بأن بقاء الأسدية لم يكن ممكناً لولا تعبيرها عن مجتمعها، مثلما لن نعدم ذلك المنطق الذي ينص على أن الثورات عموماً ابنة النظام الذي تثور عليه، وتحمل تالياً الكثير من صفاته.
لا يقع إطلاق هذه الأحكام في حيز النسبية، أو ضمن وصف لوحة مجتمعية مركّبة وشديدة التعقيد كما هو حال كل المجموعات البشرية. بل يذهب غالبية من يطلقون الأحكام إلى منحها مرتبة الحقيقة التي تستغني عما عداها. هذا التجرؤ في إطلاق اليقينيات، من دون استخدام ربما وأخواتها، يُفهم من قبل كثر من السوريين بوصفه استباحة معنوية تكمل الاستباحة المادية التي يتعرض لها سوريون في الداخل والخارج.
وقد لا نجافي الواقع بالقول إن بعضاً من هذه التحليلات، والإلحاح عليه، فوق ما فيه من مصادرة معرفية يذهب إلى تكريس صورة نمطية عن السوري تمهد لاستباحته فعلياً. فالتنميط، كما هو معلوم، هو أول أشكال العنف الرمزي، ومن أشكاله «الرقيقة» مجيئه تحت زعم محض معرفي، أو حتى تحت زعم مساعدة مجموعة بشرية على فهم ذاتها. ثمة اختلاف رئيسي بين هذا النوع من التحليلات ودراسة الظواهر الاجتماعية، فالأخيرة تتوخى فهم الظاهرة في بعدها الزمني، من دون إسقاط خصائص جوهرية على المجموعة البشرية المعنية، بينما أول ما توحي به تلك التحليلات هو إسقاط خصائص جوهرية على مجموعة بشرية بحيث لا يكون لها فكاك منها. في حالتنا السورية، ستملك هذه الخصائص تعسفاً أشد مع وجود واقع من التمزق المجتمعي قلّ نظيره، حيث تكون المخاطرة أساساً بالتحدث عن مجتمع يملك الحد الكافي من المشتركات.
لا نملك، على سبيل المثال، معلومات عن أثر تصادم بيئات سورية مختلفة في مخيمات اللجوء، ما يجعلنا عديمي المعرفة إزاء تلك المجتمعات الجديدة. ولا نملك سوى أرقام تقريبية عن عدد السكان الذين لم تتح لهم ظروفهم الهروب من حكم داعش في الرقة أو دير الزور، ولا نعرف تالياً تلك النسبة الموالية لداعش، ولا نعرف نسبة من يواليها عن قناعة أو عن انتهازية أو قسراً، مثلما لا نعرف نسبة المتبقين طوعاً أو قسراً في مناطق سيطرة الأسد.
لا يُعقل أيضاً إهمال ما يُعرف بوعي الأزمة، أو بوعي الهزيمة، عند التطرق إلى ظواهر لها بعد زمني. ولعل مثلاً بسيطاً مما يكشف البعد الزمني يغيّرُ نظرة شريحة كبرى من السوريين إلى حزب الله، من رؤيته مقاوماً الاحتلال إلى رؤيته ميليشيا تقوم بقتلهم بشعارات طائفية. هذا ينفي عن تلك الشريحة تهمة الطائفية إلى ما قبل سنوات قليلة مثلما ينفي عنها معرفة جيدة بطبيعة الحزب، ولا يُسقط عنها طائفية مستجدة نابعة من ظرف سياسي حربي، أو من شعور ضاغط بالمظلومية.
إن محاكمة مجمل الوعي السياسي في المنطقة، تذهب إلى هدف مغاير عندما يصبح ذلك الوعي عقلاً جمعياً، لا عقلاً ظرفياً ينقضي بانقضاء مسبباته. طول أمد بعض الظواهر، الذي يؤخذ حجة على عقل جمعي راسخ، قد لا يعني سوى بقاء المسببات ومنها ظروف خارجة على إرادة المجموعة البشرية المعنية، أو أكبر من قدراتها على نحو ما يواجه السوريين منذ حوالى سبع سنوات، وبالطبع على نحو ما واجههم من قبل ولا يزال يواجه غالبية شعوب المنطقة.
لم يُتح للسوريين التعبير عن أنفسهم، كمجموعة بشرية لها تطلعات مشتركة، إلا لفترة قصيرة في بداية الثورة. في ما بعد تم تحطيم ذلك الاجتماع الموقت، فقط في الأذهان بقي السوري معبّراً عن مجموع، وعلى ذلك أصبح الجزء مهما صغر مدخلاً لاستقراء ينطبق على كلٍّ غير موجود، وصار ممكناً نمذجة السوري «بوصفه جمعاً» على أي حال وجد فيه سوريون، لا يخرج عن ذلك تنميط «سوري الثورة» نفسه، إذ يزعم أن لا شيء يمثله سوى لحظة الثورة.
المصدر : الحياة