مقالات

ماجد كيالي – لكن، هل نجحت المعارضة السورية؟

غطّى غضب بعض أوساط المعارضة السورية على تصريحات ستيفان ديميستورا، المبعوث الدولي إلى سورية، على السؤال الأساس الذي يطرحه أغلبية السوريين والذي يفترض أن تطرحه تلك الأوساط على نفسها منذ زمن، وهو: هل نجحت المعارضة حقاً، بكياناتها السياسية والعسكرية والمدنية، في إدارة صراعها مع النظام، وفي إدارة أحوالها، بأقوم وأسرع ما يمكن؟ وإذا كانت نجحت فأين وكيف؟

فهل استطاعت مثلاً تشكيل كيان وطني جامع يمثل أو يعبر عن السوريين أو معظمهم؟ وهل دافعت عن المقاصد الأساسية للثورة المتمثلة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية في وجه الخطابات الطائفية والمذهبية والأيديولوجية والفئوية أم اشتغلت على محاباتها؟ ثم هل حدث ذلك في محاولاتها تفكيك جبهة النظام وتالياً توسيع جبهتها؟ أو في نجاحها في صراعها العسكري ضده؟ أو تمثل ذلك، مثلاً، في نمط إدارتها «المناطق المحررة»؟ وأخيراً هل شهدنا ذلك في تعزيزها صورتها أمام شعبها وأمام العالم؟ أو في تخفيفها مآسي السوريين اللاجئين في بلدان اللجوء؟

في المقابل، أي إذا كانت المعارضة لم تنجح، بعد مرور حوالى سبعة أعوام، فما الذي تفعله إذاً لتدارك هذا الواقع والارتقاء بأوضاعها وأدائها؟ ولماذا تنكر ضعف تمثيلها أو ضعف قدراتها أو ضعف تواصلها مع شعبها؟ أو لماذا لا تعترف بقصورها وتنتقد أحوالها، وتراجع تجربتها في السياسة والعسكرة، وتوضّخ لشعبها ما حصل؟ أي لماذا لا تبحث المعارضة في أسئلة من نوع أين أخطأت وأين أصابت وماهي المعوّقات، أو ماهي العوامل المؤثرة التي حالت دون قيامها بالمهمات المنوطة بها؟ وأخيراً ما الذي يتوجب عليها فعله كي لا تعيد انتاج التجربة ذاتها وكي تضع السوريين على سكة الخلاص، أو أقله على سكة توقف التدهور الحاصل؟

واضح من ذلك أن المعارضة أخطأت بتسرعها في الرد على ديمستورا، ولاسيما بخلطها بين الثورة والمعارضة، إذ الأولى كفكرة وكرؤيا وكحاجة وكمشروع، تتوقف أو تستمر تتراجع أو تتقدم، تخبو أو تشتعل، في حين أن الثانية، أي المعارضة، قد تنجح وقد تفشل، قد تنتصر وقد تنهزم، كما قد تنحرف أو قد تدخل في مساومات اضطرارية أو وفق مصالح المهيمنين عليها، أي لا يوجد شيء يقيني أو حتمي لا في الثورات ولا في المعارضات. وربما تجدر المصارحة هنا بأنه لا يوجد رابحون في الصراع السوري الطويل والمضني والمعقد، لا النظام ولا المعارضة، وأن الشعب السوري هو الذي يخسر نتيجة استمرار هذا الصراع، سيما على النحو الذي يجري عليه، وفي ظل التنكر الدولي لتضحيات السوريين ومآسيهم، ما يفترض بأن تكون المعارضة الطرف الأكثر تحسساً لأهوال الكارثة السورية التي تسبب بها النظام أساساً، وتسببت بها القوى الإرهابية، التي أضرّت بالشعب السوري وبثورته، والأطراف الخارجية التي تلاعبت بثورة السوريين.

على ذلك فإن ما يفترض ان تدركه أوساط المعارضة، أولاً، أنه لا يمكن الحديث عن ثورة في المطلق، أو إلى الأبد، فالثورات هي حالة انفجارية عفوية وقصيرة الأجل، لذا لا يمكن الحديث عن ثورة لسنوات، لأن هذا الوضع هو دلالة على حالة صراعية بين أغلبية الشعب والنظام (في الحالة السورية)، من دون أن يقلل ذلك من شرعيتها ونبل أهدافها، ولكنه يعطي التوصيف الصحيح (وطبعاً فإن هذا المعيار ينطبق على ما يسمى «الثورة الفلسطينية»).

ثانياً، لا يمكن الحديث عن ثورة، بمعنى الكلمة، وهي محصورة في صراع مسلح فقط، تخوضه جماعات عسكرية مختلفة ومتضاربة الأهواء، من دون حراكات شعبية، سيما في وضع باتت فيه أغلبية الشعب أما مشردة أو محاصرة أو مغلوبة على أمرها، فذلك كان يصحّ في العام الأول للثورة، مثلاً، أما في ما بعد فقد اختلف الأمر. ثالثاً، إن إدراك المعارضة واقعها، وحدود إمكانياتها، وقدرات شعبها على التحمل، والمعطيات الدولية والإقليمية المؤثرة، وخوضها الصراع على هذا الأساس، هو الذي يمكّنها من تجنيب شعبها دفع الأثمان الباهظة، والحفاظ على قواها، وتلافي مزيد من المعارك الخاسرة.

ولعل كل ذلك قد يعزز صدقيتها، ويسمح لها بمراكمة النقاط في صراع قد يمكن كسبه بإيجاد تقاطعات مع المصالح الدولية والإقليمية، وفي شكل تدريجي، بخاصة في ظل عدم استطاعة الفوز في الصراع بواسطة القوى الذاتية. رابعاً، في الصراع السوري، وغياب أغلبية الشعب عن معادلات الصراع، ووجود واقع خارجي لا يساعد بل ولا يسمح للمعارضة بالحسم، سيما في وضعها الراهن، على ما بيّنت التجربة، لا شيء يعيب المعارضة، أو ينتقص من ثوريتها، مراجعة طريقها، ورسم إستراتيجية جديدة لمواجهة التعقيدات والمداخلات الجديدة، لأن الإنكار أو المعاندة والبقاء على الطريق ذاتها بمثابة وصفة لمزيد من التردّي والتدهور، فضلاً عن أن ذلك ينمّ عن ضعف في المسؤولية السياسية والأخلاقية، لأن مهمة القيادة هي جلب الإنجازات بأقوم وأسرع ما يمكن، وليس مجرد التمسك بالشعارات أو الادعاءات التي لا يمكن إسنادها في الواقع.

وبكلام أكثر تحديداً، فإن المعارضة السورية مطالبة اليوم بتقديم إجابات واضحة، أو وضع إستراتيجية جديدة مغايرة للماضي، هذا إذا كان ثمة إستراتيجية، وذلك للتعاطي مع المتغيرات الحاصلة في الصراع السوري، وفي تموضعات القوى الدولية والإقليمية في هذا الصراع، وضمنها: أولاً، نشوء نوع من التوافق الروسي الأميركي، أو الروسي الإيراني التركي. ثانياً، إخراج «داعش» ولاحقاً «جبهة النصرة»، أو انحسار نفوذهما في الصراع السوري. ثالثاً، صعود مكانة «قوات سورية الديموقراطية»، وأخذها حيزاً مهما في خريطة القوى والجغرافيا السوريين، وطرح المسألة الكردية كمسألة وطنية سورية، بدلاً من تركها للنظام أو للتوظيفات والتجاذبات الخارجية. رابعاً، إخفاق الطريق العسكري لحل الصراع السوري، من جهة النظام والمعارضة، بسبب عوامل خارجية وداخلية، ومعها تحكم القوى الدولية (سيما الولايات المتحدة وروسيا)، بقرار الحل والصراع في سورية.

والمعنى أن مجرد قول المعارضة إن هدفها هو إسقاط النظام لم يعد كافياً، إذ إن أي سوري معارض يستطيع أن يقول مثل ذلك، لكن قيادة المعارضة مطلوب منها أكثر من مجرد التلويح ببضع كلمات، إذ عليها أن توضّح، أيضاً، كيف يمكن لها أن تسقط النظام، بأي قوى ووسائل وتحالفات، وأن توضح هل ستسقطه مرة واحدة، وهل تستطيع ذلك؟ وإذا كانت لاتستطيع فماهي إستراتيجيتها لمراكمة القوى وإسقاطه بالتدريج، أو للحفاظ على قواها وتطوير وضعها بانتظار اللحظة المناسبة؟

هل ستسقطه بواسطة القوة العسكرية أم بالوسائل السياسية أم بالاثنتين؟ وهل تملك ما يمكنها أن تفعل ذلك وحدها أم يلزمها تحالفات وخلق معطيات دولية مناسبة، ومن دون ارتهانات خارجية مضرّة؟ هل يتطلب الأمر شق جبهة النظام، واستقطاب فئات اخرى وتوسيع جبهتها والتصرف كممثل لكل السوريين أم بتكريس الانشقاق الأهلي في سورية وتقديم نفسها كممثل لجزء من السوريين، لا يهم أكانوا أقلية أم أكثرية؟ ثم ماذا عن واقع الأكراد، هل ستبقى تتعاطى معهم في العموميات، أم أنها ستقوم بتقديم مقاربة وطنية ديموقراطية تلبي فيها طموحات الأكراد للتعبير عن ذاتهم كشعب، له حقوق قومية وكأفراد مواطنين. وأخيراً ماهي رؤيتها لسورية المستقبل؟ أي هل ستبقى على مواقفها في محاباة خطابات جماعات المعارضة العسكرية الإسلامية المتطرفة، التي قدمت نموذجا سيئاً للسلطة في إدارتها «المناطق المحررة»، وفي نمط هيمنتها على السوريين في تلك المناطق، الأمر الذي أفاد النظام، أم ستعيد الاعتبار إلى المقاصد الأساسية للثورة باعتبارها ثورة ضد الاستبداد بكل أشكاله، ومن اجله الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، بحيث تكون سورية لكل السوريين، بغض النظر عن اية هوية دينية أو مذهبية أو اثنية أخرى.

هذه أسئلة يفترض بقيادة المعارضة أن تفكر فيها وأن تقدم الإجابات المناسبة عليها، بدل الاكتفاء بالتغطّي بهدف إسقاط النظام، لأن الوضع يستلزم حينها سؤالها ماذا فعلت حقاً لإسقاطه غير الكلام أو مجرد طرح الشعارات؟ ولماذا لم تسقطه حتى الآن؟
الآن، للتوضيح، أو منعاً للالتباس، فإن هذا الكلام يأخذ في اعتباره حجم القوى التي صبّت في خدمة استمرار نظام بشار الأسد، ولاسيما وقوف دولتين معه إلى أخر حد، هما روسيا وإيران، في مقابل الخذلان او الإنكار الذي لاقاه السوريون من قبل دول ما، سميت «أصدقاء الشعب السوري»، وكذلك الفارق في موازين القوى العسكرية، وضعف خبرات السوريين في السياسة، التي حرموا منها لنصف قرن. لذا فإن الحديث هنا يتعلق بدور العوامل الذاتية في تردي أحوال المعارضة، أي قصور الأوساط التي تصدرتها، وتحكمت بمساراتها وخطاباتها وأشكال عملها، وأخطاء المراهنات والارتهانات التي استندت إليها، مع التأكيد أن السياسة هي فعل بشر، وأنها لذلك تستوجب النقد، والتشجيع على التفكير النقدي.

المصدر : الحياة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى