مقالات

روبرت فورد – العلاقة الأميركية ـ التركية: مرارة بدل الصداقة

كانت أولى وظائفي في خدمة الدبلوماسية الأميركية في مدينة إزمير التركية قبل ثلاثين عاماً. وتعلمت الحديث باللغة التركية – وإنها لغة صعبة للغاية – واكتشفت كم أن الشعب التركي ودود للغاية وفخور أيّما فخر بثقافته وتاريخه. وكان تصور الأتراك الذين التقيتهم في ثمانينات القرن الماضي عن الولايات المتحدة أنها من الدول الصديقة والحليفة.

أما الآن، وفي عام 2017، شهد الموقف التركي الودي تغيراً كبيراً. ووفقاً لاستطلاع رأي أُجري في يوليو (تموز) الماضي، فإن 72 في المائة من المواطنين الأتراك يعتقدون أن الولايات المتحدة – وهي من حلفاء منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) – تشكل أكبر تهديد ممكن لبلادهم. وكلا البلدين يدرك أن «داعش» يشكّل تهديداً كبيراً، لكن الاستراتيجية الأميركية القائمة على استخدام ميليشيات «وحدات حماية الشعب» الكردية في مواجهة «داعش»، وهي الميليشيات وثيقة الصلة بـ«حزب العمال الكردستاني» الإرهابي، أثارت الكثير من الحنق التركي. وطالب رئيس الوزراء التركي يلدريم في 10 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي من واشنطن التوقف عن إمداد «أبناء العمومة» من أعضاء «حزب العمال الكردستاني» بالأسلحة، الأمر الذي ظلت الحكومة التركية تكرر مطالبة واشنطن به منذ عام 2015. ويساور تركيا القلق من أن توفر «وحدات الحماية» المساعدة في شن الهجمات الإرهابية الكردية انطلاقاً من شمال سوريا على المدى القصير، وأن الأكراد السوريين سوف يلتحقون بصفوف الأكراد الأتراك في محاولة الاستيلاء على المنطقة الكردية التركية والانفصال بها عن الجمهورية التركية على المدى البعيد. وعدم الاكتراث الأميركي الملاحظ إزاء المخاوف التركية بشأن القضية الكردية السورية هي مثل الحمض الذي يسبب التآكل الشديد في العلاقات الثنائية بين البلدين.

وما يُضاف إلى هذه المشكلة الكبيرة، يبدو أن الحكومة التركية غير قادرة على تفهم الموقف الأميركي حيال وجود المعارض التركي البارز عبد الله غولن في الولايات المتحدة؛ إذ إن تسليم المجرمين المشتبه بهم هي مسألة قانونية محضة وهي أبعد ما تكون عن القنوات السياسية في الحكومة الأميركية. وشرط توافر الأدلة الدامغة من قبل المحاكم الأميركية يجعل من عملية التسليم أكثر بطئاً وأطول أمداً. وليس أمام إدارة الرئيس دونالد ترمب الكثير لتفعله في تسريع العملية القانونية، وبالتالي فإن وجود السيد غولن على الأراضي الأميركية هو أيضاً مثل الحمض الذي يسبب المزيد من التآكل للعلاقات الثنائية الأميركية – التركية.

وألقى الأتراك من جانبهم بالكثير من الحمض على هذه العلاقات. فلقد تعرض الحرس الشخصي المرافق للرئيس رجب طيب إردوغان، خلال زيارته الأخيرة لواشنطن في مايو (أيار) الماضي، بالهجوم على المواطنين الأميركيين في أحد الشوارع العامة قرب السفارة التركية الذين كانوا يحتجون على سياسات إردوغان. وسرعان ما ذاع انتشار مقاطع الفيديو للهجوم عبر موقع «يوتيوب» وغيره من القنوات الإخبارية ووسائل الإعلام الاجتماعية. وهناك في الوقت الراهن قضية تنظر فيها المحاكم الأميركية ضد الحرس الشخصي للرئيس التركي بشأن الواقعة.

وبالإضافة إلى ما تقدم، ألقت الحكومة التركية القبض على 11 مواطناً أميركياً إثر اتهامات بالتجسس أو توفير المساعدة للسيد غولن. وأحد المقبوض عليهم هو قِسّ أميركي عاش في تركيا طيلة 23 عاماً. وما يستحق الإشارة أن 78 عضواً من الكونغرس الأميركي، بمن في ذلك أعضاء محافظون من الحزب الجمهوري وليبراليون من الحزب الديمقراطي قد بعثوا في فبراير (شباط) الماضي برسالة إلى الرئيس التركي يحضّونه على إطلاق سراح القس الأميركي المحتجز. كما وصفت صحيفة «واشنطن بوست»، القريبة من رأي الحزب الجمهوري، وصحيفة «نيويورك تايمز»، القريبة من وجهة نظر الحزب الديمقراطي، المواطنين الأميركيين المحتجزين في تركيا بـ«الرهائن».

هذه المشكلات، جنباً إلى جنب مع سياسة الحكومة القمعية حيال حقوق الإنسان في تركيا، جعلت الأمر عسيراً للغاية على أي شخصية في العاصمة الأميركية تحاول التوصية بتقديم تنازلات أميركية بغية التوفيق أو التصالح مع الرئيس إردوغان، ما يضيف مزيداً من الحمض على العلاقات الثنائية.

وبعد اعتقال تركيا، الأسبوع الماضي، موظفاً تركياً ثانياً من أعضاء البعثة الدبلوماسية الأميركية في تركيا، اتخذت واشنطن الخطوة الاستثنائية الصارمة من حيث وقف إصدار التأشيرات الجديدة لدخول المواطنين الأتراك إلى أراضي الولايات المتحدة. وكان الإجراء الأميركي الأخير علنياً بدرجة كبيرة، الأمر الذي دفع الحكومة التركية إلى الرد بالمثل وإيقاف إصدار تأشيرات جديدة للمواطنين الأميركيين المسافرين إلى تركيا. وكانت علانية الخطوة الأميركية مثيرة للكثير من الاستغراب، فلقد كنت أعمل في عدة سفارات، حيث ألقت الحكومات المضيفة القبض على الموظفين المحليين العاملين في تلك السفارات، ولكننا كنا نعمل في هدوء تام عبر القنوات الدبلوماسية المعهودة لتسوية مثل هذه المشكلات. وأعلن وزير الخارجية ريكس تيلرسون في بيان علني، آخر يوم الحادي عشر من أكتوبر، صرح فيه بمناقشة إلقاء القبض على الموظفين المحليين مع نظيره التركي. وبدلاً من العمل الهادئ خلف الأبواب المغلقة، فإننا نشهد تصعيداً للمواقف من كلا الجانبين. وهذا من الأمور الأكثر إلحاقاً للضرر بالعلاقات الثنائية كذلك.

وحتى الآن، لا تزال الحكومة التركية تسمح للقوات الجوية الأميركية باستخدام القاعدة الجوية المهمة في إنجرليك للعمليات الجارية في سوريا والعراق. وبالنسبة إلى الجانب الأميركي، فإن قاعدة أنجرليك من أهم المؤشرات على قوة العلاقات الثنائية بين البلدين. ويحاول الرئيس إردوغان التواصل مع روسيا وإيران لإظهار مقدرته على الاستقلال عن «حلف شمال الأطلسي» وعن الجانب الأميركي. وتعمل كل من روسيا وإيران، من حيث المبدأ على أدنى تقدير، مع تركيا بهدف الحد من القتال الدائر في الداخل السوري، ولقد تبادل كبار القادة العسكريين الأتراك والإيرانيين الزيارات رفيعة المستوى في خطوة جديدة ومؤثرة.

ومن الجدير بالذكر في ذات السياق استدعاء المنافسة الإقليمية التقليدية بين الروس والأتراك، وهو السبب الرئيس في انضمام تركيا إلى «حلف شمال الأطلسي» عام 1952. ولا يعتقد أحد أن الرئيس فلاديمير بوتين قد تخلى تماماً عن أحلامه بتمديد النفوذ الروسي إلى دول الجوار الجغرافي. وعلى نحو مماثل، تنافس الفرس والأتراك لبسط الهيمنة والنفوذ على منطقة الشرق الأوسط عبر قرون ممتدة. والسياسة التوسعية الإيرانية الراهنة لا توحي بالارتياح من جانب الجمهورية التركية الحالية.

ومن الممكن تصور، وفقاً لذلك، أنه في مواجهة التوسع الروسي والإيراني الملاحظ، سترغب تركيا في نهاية المطاف في تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. ومما يُضاف إلى ما تقدم، فإن الاقتصاد التركي يتفاعل بمعدلات أداء سيئة حيال الأزمة الراهنة مع الولايات المتحدة. فلقد سجلت الليرة التركية هبوطاً في قيمتها، وهناك اهتزازات ملحوظة في أسواق الأسهم. ويمكن لكلٍّ من الولايات المتحدة وتركيا الاستفادة من التعاون الثنائي، لكن في الوقت الحالي، يبدو أن أياً من الجانبين يرغب في وقف حالة التآكل المستمرة في العلاقات الثنائية.

المصدر : الشرق الأوسط 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى