مقالات

علي العبد الله – الدولة الكردية مصلحة عربية

ما تزال ردود الأفعال على استفتاء كرد إقليم كردستان تتوالى في تصريحات حادة وإجراءات عسكرية وسياسية واقتصادية قاسية، ناهيك عن شيطنة الكرد وقيادتهم، باستحضار إسرائيل إلى قلب المشهد، وتصوير المطالبة بالاستقلال بمثابة إقامة إسرائيل ثانية، وفق تصريح مستشار مرشد الجمهورية الإيرانية، علي أكبر ولايتي، في تجاهل سمج لطبيعة الموقف وحقيقة القضية.

تطرح القضية الكردية، بتداخلاتها وتشابكاتها، فرصا كبيرة ومخاطر كثيرة، ويتوقف النجاح في استثمار الفرص وتجنب المخاطر على زاوية النظر وطريقة التحرك، من جهة، ونمط الحسابات ودقتها، من جهة ثانية، وقد تجسد ذلك جليا في مواقف الأنظمة في تركيا وإيران والعراق وسورية من الاستفتاء العتيد ونتيجته الواضحة، حيث عكست هواجسها ومخاوفها الآنية كأنظمة، من دون اعتبار للفرص التي ينطوي عليها قيام دولة كردية لدولها وشعوبها على المدى الطويل، إن لجهة تكريس الاستقرار فيها وفي الإقليم، بعد ما شهدته، وشهده، من مآس ومعاناة وضحايا وخسائر مادية ضخمة وإضاعة لفرص التنمية والازدهار، نتيجة المواجهات الدامية التي انفجرت على امتداد قرن، على خلفية رفضها مطالبة الكرد بحقهم الشرعي في دولة مستقلة، وتوظيف قوى استعمارية للملف الكردي في الضغط عليها واستنزافها وابتزازها، ما يرجح انفجار المواجهات مجدّدا، ما لم يتم حلها بصورة مرضية، حيث عكست مسيرة النضال الكردي من أجل الاستقلال صلابة الكرد واستمراريتهم واستعدادهم للتضحية، ما يعني بقاء القضية الكردية على الطاولة لأجيال، وبقاء هاجس قيام دولة كردية سيفا مسلطا على دولها ومستقبل شعوبها، أو لجهة توفير فرص تنمية مستدامة، قائمة على التعاون وتبادل المنافع، تفسح المجال لتطور وازدهار راسخين.

لم تجد إيران في الاستفتاء إلا المخاطر التي ستحد من هيمنتها وسيطرتها على العراق، ما يقود إلى تراجع دورها الإقليمي، لا يغير في ذلك زعمها عن دور إسرائيل والخطر الذي يشكله وجودها على حدودها في دولة كردستان الوليدة، في ضوء علاقة الكرد بإسرائيل، وتأييد الأخيرة قيام دولة كردية، لأن تعاطيها الإيجابي مع مطالب الكرد والاتفاق معهم على حل مرضٍ كفيل بإلغاء حصول هذا الخطر، فالكرد، كما عكست التجربة، يريدون العنب لا قتل الناطور.

ولم تكن تركيا أكثر منطقية، فتخوفها من مترتبات قيام دولة كردستان في إقليم كردستان على أمنها الوطني حقيقي، في حالة واحدة: وقوفها السلبي من مطالب الكرد فيها، واستمرارها على موقفها من مشروع الحل السلمي الذي مشت فيه خطواتٍ، وتخلت عنه في موقف غير مفهوم أو مبرّر. أما العراق الذي يمتلك بعض الحجج الوجيهة، لجهة خسارته جزءا من مساحته الجغرافية، وما فيها من ثروات، نفط وغاز ومعادن ومياه، علما أنها ألحقت بها عام 1920 من البريطانيين، على الرغم من معارضة أصحابها الكرد، وهذا كرّس حقوقا لها في تلك المساحة، وفق منطوق القانون الدولي، فمدعوة بداية للتحرّر من الضغط الإيراني على حساباتها واعتباراتها، والتدقيق في الموقف بكل أبعاده، ومن كل زواياه، والموازنة بين الخروج من الحرب الباردة والساخنة مع الكرد والاستمرار فيها قرنا آخر.

بين الاتفاق على قيام كيان كردي وطبيعته والعلاقة معه وتنظيمها وتقاسم الثروات معه، والبقاء أسيرة صراع مفتوح. بين هدر الإمكانات في مواجهة الكرد وتكريسها لحل المشكلات الضاغطة على كيانها وحياة مواطنيها اليومية. فالاتفاق على حل يلبي جزءا مهما من مطالب الطرفين، ويقطع الطريق على تدخل دول وقوى خارجية، خصوصا إسرائيل، لتأجيج الصراع، بات ضرورة وطنية، في ضوء الحاجة إلى الأمن والاستقرار ومواجهة تلال الملفات العالقة، خصوصا الهيمنة الإيرانية التي تعيق انطلاقتها. ناهيك عن أن قيام كيان كردي مستقل بالكامل، أو داخل في علاقة كونفدرالية مع العراق، بغطاء عربي يخدم المصلحة العربية لجهة تطويق إيران ومحاصرة تركيا، والحد من تغولهما على مصالح الدول العربية والتدخل في شؤونها.

في البداية والنهاية، هناك حقيقة ثابتة تستدعي من تركيا وإيران والعراق وسورية التعامل معها بجدية ومسؤولية، وهي كثافة الحضور الكردي في دولها. الحالة السورية هي الأقل في هذه النقطة، من جهة، وتواصل الجغرافيا التي يشغلها هذا الحضور، من جهة ثانية.

وهذا، مع الأخذ بالاعتبار قدم هذا الحضور وتواصله واستمراريته، يشكل أرضية موضوعية لحقوق سياسية للشعب الكردي، أسوة بما هو سائد ومتعارف عليه في الأدبيات السياسية والحقوقية، حقوق لا تلغيها الأحداث والوقائع الناجمة على الصراعات وسياسات التغلب التي تخضع لتوازنات القوى، أو لاتفاقات ثنائية أو جماعية ترتبت عليها، أو للمعايير القانونية المحلية والإقليمية والدولية التي صيغت واتفق عليها في ظروف خاصة (الحروب، كما حصل بعد الحرب العالمية الأولى بتأسيس عصبة الأمم والنظام القانوني الذي تبنته، والحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة، وما تبنته من معايير قانونية جديدة ومختلفة عن عصبة الأمم)، أو لحظات استثنائية مثل هزيمة عسكرية لدولةٍ في حربها مع أخرى (ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية، باكستان في حربها مع الهند وانفصال بنغلادش، العراق في عاصفة الصحراء)، فقد اتفق المنظّرون في مجالات السياسة والاستراتيجية على التمييز بين اتفاقات الإرادة الحرة، الإرادة الكاملة، واتفاقات الإرادة المقيدة أو الناقصة، فللأولى صدقية وموثوقية واستمرارية، لأنها قامت على أرضية رضا أطرافها، في حين تبقى الثانية عرضةً للاهتزاز، والإلغاء كذلك، في ضوء تغير الظروف العسكرية والسياسية، لأنها وليدة عدم رضا نجم عن هزيمة طرفٍ، أو عجزه عن نيل حقوقه، بفعل الضغوط والابتزاز والقهر.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى