منذ انتهاء عمليات تحرير محافظة نينوى بالكامل، والأخبار تتسرب بين الحين والآخر معلنة عن ضربة جوية أمريكية أو روسية قضت على من يعرف بـ»خليفة الدولة الإسلامية»، ثم لا تلبث المصادر الإخبارية أن تعلن تكذيب خبر مقتله بعد ذلك، حدث هذا الأمر أكثر من ثلاث مرات حتى الآن.
التنظيم اليوم لم يعد يسيطر سوى على بعض الجيوب في القائم غرب الأنبار في العراق، وفي البوكمال شرق سوريا، والمدينتان في طريقهما للتحرير، إذن أين اختفى الخليفة؟ وهل يمكن أن يكون قد خرج من منطقة القتال في سوريا والعراق برمتها، وانتقل إلى مناطق يسيطر عليها التنظيم في دول أخرى مثل سيناء المصرية، أو سرت غرب ليبيا أو نيجيريا؟ وهل وجوده حيا يمثل خطرا حقيقيا، أو عنصر تجميع قادرا على إعادة إحياء التنظيم؟
الولايات المتحدة كانت قد وضعت مكافأة مالية لرأس إبراهيم عواد البدري السامرائي المعروف بأبي بكر البغدادي مقدارها 10 ملايين دولار، من دون الوصول إلى من يدل عليه أو يقدم معلومات تسهل اعتقاله حتى الأن.
لقد مر اليوم أكثر من ثلاث سنوات على ظهوره العلني الوحيد في يوليو 2014 من على منبر الجامع النوري الكبير في الموصل ليعلن خلافته، وبعدها لم يظهر نهائيا بشكل علني، وما أعلن من طرفه لم يكن سوى بعض الخطابات الصوتية الموجهة للتنظيم، التي لم يبت في مصداقيتها، وهذه الخطابات نشرت بعد تعرض داعش إلى انكسارات وهزائم متعددة في عام 2016. لكن تجدر الإشارة إلى أن الحلقة المحيطة برأس التنظيم بقيت عصية على الاختراق من قبل مخابرات الدول التي تحارب التنظيم، ولذلك لم تحصل كل أجهزة المخابرات إلا على معلومات شحيحة عن الخليفة وطريقة تفكيره، ومدى قدراته وحدود صلاحياته في التعامل مع القيادات العسكرية الميدانية. ومن ضمن أهم الأخبار التي نقلت عن البغدادي هي تقارير مخابراتية أشارت إلى إصابة زعيم التنظيم في غارة لقوات التحالف، ولكن يبدو أنها لم تكن دقيقة؛ وتعتقد الجهات الاستخباراتية التي نقلت الخبر، أنه نجا من الموت إثر غارة أمريكية استهدفت موكبه في ديسمبر الماضي، في ضواحي مدينة الموصل بعد استهداف سيارتين كان يستقل إحداهما، وقد قتل في تلك الغارة، بحسب المصادر نفسها مساعده أبو علاء العفري، وهذا الأمر قد مثل حينها ضربة قوية للتنظيم، لان العفري كان بمثابة الرجل الثاني في التنظيم، وكان يعد ليكون بديلا رسميا للبغدادي في حال تعرضه للقتل. كما أن جهات رسمية روسية أعلنت سابقا عن مقتل البغدادي في غارة جوية في مدينة الرقة، التي تحولت إلى عاصمة التنظيم، بعد تحرير الموصل، إلا أن التنظيم نشر شريطا صوتيا ينفي فيه زعيمه الشائعات حول مقتله. وترى مصادر مخابراتية أن البغدادي ينتقل من موقع إلى آخر باستمرار بعد سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من الولايات المتحدة على الرقة، بحسب تقرير نشرته صحيفة «ديلي ستار» البريطانية.
وقد صرح الجنرال الأمريكي توني توماس، الذي قاد العمليات الخاصة لمكافحة «داعش» في العراق في وقت سابق قائلا، «إن إحدى فرقنا العاملة على محاربة داعش كانت قد اقتربت جدا من إلقاء القبض على البغدادي عام 2015، بعد قتل من يعرف بـ»وزير النفط» للتنظيم الإرهابي أبو سياف، والقبض على زوجة البغدادي التي سلمت للاستخبارات معلومات مفيدة، إلا أن البغدادي تمكن من الفرار بسبب تسريب المعلومات إلى الصحافة». وكان مكان وجود البغدادي أمرا محيرا وشائكا ومعقدا بالنسبة للمخابرات الأمريكية التي حاولت مرارا اختراق الدائرة الضيقة المحيطة بالبغدادي، من دون أن تنجح في ذلك، لكن يبقى الأمر كما وصفه الخبير في شؤون الجماعات الاسلامية هاشم الهاشمي عندما قال، «إن البغدادي رجل هارب وعدد أنصاره ينخفض مع فقدانهم المزيد من الأراضي، كما أن زعيم التنظيم لا يمكن أن يسمي نفسه الخليفة بعد انهيار دولة «داعش» على الأرض».
مع تداعي ما عرف بخلافة «الدولة الإسلامية» نحن إزاء أسئلة لابد أن تطرح لنستطيع الاقتراب من رسم ملامح المقبل من الأحداث، وأهم هذه الاسئلة هو هل سيخوض التنظيم مفاوضات مع الحكومة العراقية أو السورية، لينتقل من طور المعارضة المسلحة إلى طور اللعبة السياسية؟ والجواب على ذلك من كل المعطيات العسكرية والسياسية السابقة ألا امكانية لمثل هذا التحول، لأن التنظيم وقياداته ليست من النوع الذي يبحث عن حلول سياسية، كما أن التنظيم كان في أيام قوته يتعامل مع الآخر وفق استراتيجية التوحش، التي عرفت عنه، والتي لا يمكن أن تكون لها صلة باللعبة السياسية في أي حال من الاحوال.
والسؤال الثاني هو ما مدى أهمية أبوبكر البغدادي بالنسبة للتنظيم؟ والكل بات يعلم من المعلومات القليلة المسربة أن صعود هذا الشيخ الذي أتم دراسته للدكتوراه في العلوم الإسلامية في جامعة بغداد وعمل خطيبا وإماما لمسجد صغير في إحدى ضواحي بغداد لم يكن شخصية كارزمية أو قيادية، أو تمتلك ما يمكن أن يجعلها تتقدم الصفوف للزعامة، كما هو حال بعض القيادات الإسلامية السابقة مثل اسامة بن لادن أو الظواهري، أو حتى ابو مصعب الزرقاوي، لكن ما خلق هذه الهالة على البغدادي هو شحة المعلومات، واختفاؤه أو ابتعاده المتعمد عن الاضواء، ربما كان هو السبب وراء رسم هذه الصورة. من كل ذلك يعتقد المتخصصون في شؤون الجماعات الاسلامية أن البغدادي لا يملك من القدرات ما امتلكه اسلافه من قيادات العمل الجهادي المسلح، وأن احتمالية ظهوره في مكان نشاط أو ساحة قتال جديدة امر ضعيف الاحتمال بشكل كبير.
إذن ما الذي سيحصل في هذه الحالة؟ التوقعات تشير إلى تراجع النشاط المنظم الذي اتصف به التنظيم ابان انطلاقته السريعة في الاعوام من 2014 حتى 2017، لذلك التوقعات تشير إلى إمكانية تحول نشاطاته إلى تشظيات إرهابية ساحتها دول العالم المختلفة، هجمات سينفذها ما بات يعرف بالذئاب المنفردة، وربما سيساعد على مثل هذا التصور محاولة عودة الكثير من المقاتلين الأجانب الذين قاتلوا في العراق وسوريا إلى دولهم الاصلية، وهؤلاء ربما سيشكلون المادة الخام لنشاطات ارهابية مقبلة، لكن لن يكون للتنظيم الذي رفع شعاره المركزي في الاراضي التي سيطر عليها «دولة خلافة على منهاج النبوة» اي وجود على الارض، وربما سيتحول وجوده ونشاطه بشكل كبير إلى العالم الافتراضي، الذي سينشط فيه لتشكيل جماعات إرهابية متناثرة في مختلف دول العالم لا يربط بينها سوى الولاء العقائدي، مع اقل ما يمكن من التنسيق بين الافراد والشبكات حول العالم.
ويبقى السؤال الاهم: هل سيشاهد العالم على شاشات التلفزيون عملية إلقاء القبض على «الخليفة»؟ أنا اعتقد أن مثل هذا السيناريو ما زال بعيد الاحتمال، وربما لن يتم بهذا الشكل في حال من الاحوال، إذ ربما نفاجأ بخبر مقتل ابو بكر البغدادي في عملية عسكرية تنفذها جهة ما، لكن إمكانية إلقاء القبض عليه تبقى بعيدة الاحتمال الان، كما يجب أن نضع في اعتبارنا أن عملية بهذا الحجم سيتم استثمارها سياسيا بشكل كبير في التغطية على مشكلة دولية كبيرة مثلا، أو التغطية على فضيحة سياسية كبيرة، أو استثمار الامر للدعاية الانتخابية في دولة كبرى، وهكذا ربما سنشهد سيناريو مشابها لما حصل في إلقاء القبض على أسامة بن لادن والتخلص منه برميه في قاع المحيط من دون وجود أدلة على ذلك.
المصدر : القدس العربي