تكاد لا تخلو جلسة سورية بين مثقفين معارضين، أو حتى رماديين، من الحديث عن غياب المشروع الوطني السوري. وجوهر الأمر شعور بالعجز عن صناعة ما هو أفضل من واقع قائم اليوم، ويمكن تسميته بالكارثي، وحتما البحث عن صناعة مستقبلٍ، يقطع مع الماضي الذي سبق ثورة السوريين التي تعبر إلى عامها الثامن، في ظل حربٍ كارثيةٍ يشنها النظام وحليفتاه إيران وروسيا في مناطق متفرقة من البلاد، من جنوبها وغوطتيها الشرقية والغربية، ومن وسطها وشمالها في إدلب، والغريب انضمام تركيا إلى حرب توافقية مع كل من روسيا وإيران في عفرين، لفتح الطريق أيضاً إلى منبج، ما يعني أننا أمام الرعاة الثلاثة لاتفاقات أستانة التي أعلنت أنها بهدف خفض التصعيد، وصولاً إلى وقف كامل لإطلاق النار في سورية، والذهاب إلى مفاوضات سياسية تهيئ لحل المأساة السورية التي تدخل عامها الثامن.
وعلى الرغم من الغوص في كل لقاء يجمع بين سوريين، بحثاً عن أخطاء مؤسسات المعارضة وتفنيدها، وانتزاع الدروس التي كلفت الشعب السوري ضحايا كثيرين، إلا أننا في كل وقت نقف عند حدود تلك الانتقادات، في محاكاة لتجربة رجم الشيطان، أو تقديم الاعترافات، من دون الولوج إلى جوهر الطقوس، بما تعنيه القطع مع تلك الأخطاء والخطايا تحت بند التوبة، ما يؤسس من جديد لتجارب لا تبتعد في مساراتها عن الحفر المعلن عنها خلال التشريح الواقعي لعمل تلك المؤسسات، ما يجعل من خطاب النقد المتتالي مجرّد شعارٍ، يضاف إلى جملة من شعارات المرحلة الغارقة بفشلها سورياً، سواء على صعيد العمل السياسي أو العمل المسلح بشقيه، العفوي والمؤدلج.
ومن هنا تأتي أهمية استنباط آليات جديدة في صناعة فعل سوري يمكنه أن ينتج جسراً يعبر فوق الواقع، مستفيدا من حوامله الوطنية، ومتجاوزاً التدخلات الإقليمية والدولية، ومتكئاً على رغبة السوريين في إيجاد مشروع وطني، يكون هو التعبير الحقيقي عن هدف الثورة ضد نظام الاستبداد وحكم المؤسسة الأمنية. ولكن كيف يمكن الوصول إلى ذلك المشروع؟ وما آليات العمل عليه؟ ومن أين يمكن لحظ ضروراته الوطنية؟ ومن هي الجهة القادرة على جمع لم السوريين على صورة وطن المستقبل؟ وهل بقي بين المعارضين أفراد أو مجموعات من يستطيع فعلياً تجاوز “الأنا” الفردية مقابل ال “جميع”؟
قد نظلم قلة من الشخصيات الوطنية المعارضة عند الحديث عن طغيان المصالح الشخصية، وحروب أعداء الكار، التي تطفو على بحرٍ من كراهية الآخر، والتقليل من شأنه، واعتبار وجود “الآخر الشريك” تعتيما على وجوده، ما يجعل من العمل الجماعي المؤسساتي، في ظل هذه الأجواء، غير ممكن، إلا في ظل الخضوع لمعادلة السيد والتابع، وفقاً للقدرات في تأمين الدعم المالي فقط، ولهذه مواصفاتٌ لا يمتلكها كثيرون، بل يمكن القول 99 بالمائة من الشخصيات الوطنية الحقيقية، حيث لا تدخل من ضمن ما تسمى “كاريزما” الأسماء التي يحترمها الشارع السوري، أي أن من يستطيع تحويل التطلعات من نظريةٍ إلى المشروع الوطني القابل لأن يكون بديلاً لكل ما يطرح من مشاريع، تأخذ السوريين خارج الحل المستقبلي لسورية، سيكون “متهماً” فوراً أنه من صنف غير الشخصيات المراهن عليها وطنياً، وسيأخذ، بطريقة أو بأخرى، المشروع لتعويمه مع مموله، أي لن يكون هناك أي دور للقدرات القيادية والثقافية والتجربة والخبرة ومنطق العمل الوطني.
وبمصارحة مؤلمة لمن يكتبها ويقرأها، فإن المال السياسي هو الذي بات يعول عليه تقديم الحلول، إما بطريقة مباشرة، من خلال الرعاية العلنية لأي نشاط يستهدف نخبة المجتمع، أو بطريقة غير مباشرة، عبر غطاء من جهة، أو شخصية سورية، صنعها أصلاً ذاك المال السياسي ذاته، ما يعني أن أي حديثٍ عن جهد وطني خالص لإيجاد حالة وطنية جديدة، محكوم باختراقه وتعطيله، وتوجيه دفته باتجاه أجندة مموله، سواء الظاهرة أو الخفية.
وضمن هذا الواقع المأساوي الذي أفرزته السنوات السبع من حرب الاستنزاف التي شنها النظام على الشعب السوري، الذي واجهه بمطالبه الإصلاحية، للخلاص من نظام أمني استبدادي، وبناء منظومة حكم تحقق له حريته وأمانه وكرامته وحقوقه المواطنية، يبرز السؤال الملح الذي لا يمكن تجاهله، سواء مر عام أو سبعة أعوام، ففي كل وقتٍ لا بد من إحياء هذا السؤال، بهدف العمل على إحداث الخرق الممكن في مواجهة حالة انسداد الأفق في وجه السوريين:
هل على النخبة السياسية والثقافية الاستسلام لاختطاف القرار الوطني، والانخراط بالاصطفافات السياسية الخارجية لمستثمري المال السياسي في الصراع السوري، بكل أوجه الاستثمار من العسكري إلى الإعلامي والثقافي، وحتى الفني، أم أن القدرة على ولادة ذلك التوجه الوطني لا تزال متوفرة، حتى عندما تبدأ من أسفل سلم التوافقات بين سوريين ليسوا ضمن المحسوبين على الممولين الدوليين، ولا يسعون، من خلال انخراطهم بمشروع وطني، إلا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من دور للسوريين في اختيار أجندة مستقبلهم، وسبل العيش بينهم، وآليات إنهاء مأساتهم وفق الممكن والمتاح، وبما لا يهدر التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب السوري فداء لحريته؟
هذا السؤال برسم مجموعة من المثقفين والسياسيين اجتمعوا أخيرا، حضرت معهم جانبا من اجتماعاتهم، كواحدة من مجموعة العمل التي شاركت في كتابة النداءات، مع آخرين انضموا إليهم ومنهم: ميشيل كيلو، موفق نيربية، ماجد كيالي، وزكريا صقال، وأنور بدر، ومنى أسعد، وكان من ضمن من شاركهم في النداء الأول فايز سارة ونغم الغادري، وهي المجموعة التي وجهت نداءاتها إلى الشعب السوري منذ ما يزيد من عام، ووافقها مئات من السوريين رؤيتها ووقعوا على تلك النداءات، للقطع مع الرهانات الخاطئة للمعارضة السورية، والاعتراف بأن الارتهان للدول، وعسكرة الثورة، وأدلجة الفصائل، وضياع الخطاب الوطني وتشتته بين الخطابات الإيدولوجية والطائفية والمذهبية، كلها أسباب أدت إلى تراجع مكانة الثورة داخلياً وخارجياً، والسعي من خلال تجمعات سورية – سورية إلى اجتراح الحل السوري، ولو على صعيد الخطاب الوطني، قبل الحديث عن العمل الفعلي.
كان مثمراً أن تستعيد بعض النخب دورها، من خلال أقلامها، في تحريض الشارع السوري على العمل، ولو عبر مجموعاتٍ صغيرة، فربما تنتج تقاطعاتها المشتركة لاحقاً، وما يمكن أن يبشر لفعل إيجابي، فيما لو نجت هذه الاجتماعات من مصائر سابقاتها، كاختطافها وتحويلها إلى “رخصة سياسية”، أو كما يسميها الشارع السوري “دكاكين”، تشارك في زيادة شتات المعارضة، وتعميق خلافاتها وتأجيج نزاعاتها. حيث يغرق المشروع الوطني، ولا يصبح بالإمكان البناء فيه أو عليه.
المصدر : العربي الجديد