مقالات

برهان غليون – حان الوقت لمبادرة أممية لإنهاء المحنة السورية

شكرا للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي دعا يوم 17 /3/ 2018 مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء المأساة السورية على وجه السرعة. وكذلك للمتحدث باسمه، فرحان حق، الذي أكد أن “الواقع على الأرض في سورية بات يتطلب إجراءاتٍ سريعةً لحماية المدنيين، وتخفيف المعاناة، ومنع مزيد من عدم الاستقرار، ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع، وإيجاد حل سياسي دائم يتماشى مع قرار مجلس الأمن 2254”.

ونحن إذ نحيي هذه الصحوة الميمونة، نطلب من الأمم المتحدة، تماما كما ذكر فرحان حق، “أن تجمع بين طرفي الأزمة للدخول في مفاوضات رسمية، وإجراء انتخاباتٍ حرة ونزيهة، تحت إشراف أممي، بهدف إجراء تحول سياسي في البلاد”.
لكن من هما طرفا الأزمة بالفعل؟ هل هما الرئيس السفاح ونصر الحريري رئيس ائتلاف المعارضة؟

الطرفان الرئيسيان المسؤولان عن استمرار الحرب اليوم ودمار سورية هما واشنطن وموسكو وحلفاؤهما. وما دامت الأمم المتحدة وأمينها العام ومبعوثها للمفاوضات السورية يتجاهلون ذلك، ويرمون الكرة في ملعب السوريين، موالين ومعارضين، سوف تبقى الأمور على حالها، وتستمر الحرب إلى أجل غير مسمى. فكما أن الروس والإيرانيين يستغلون تشبث الأسد بالسلطة، إن لم يدفعوه إلى المبالغة به، من أجل فرض وجودهم وحضورهم العسكري والسياسي والاقتصادي الأول أمرا واقعا، في مواجهة القوى الدولية والإقليمية الأخرى، فإن الأسد يستفيد من تمسكهم بتحقيق أغراضهم ومشاريعهم الاستعمارية، من أجل تحقيق مشروعه الذي لم يعد يخفى على أحد، وهو التهجير القسري للسكان، وإبادة الحاضنة الاجتماعية لقوى الشعب المعارض، وإفراغ المناطق والمدن الاستراتيجية من سكانها، حتى يمكنه البقاء أطول ما يمكن، وقطع الطريق على أي انتقالٍ للسلطة، أو تغيير في بنيتها السياسية والاجتماعية والطائفية.

لا تستطيع الأمم المتحدة أن تخفي إلى الأبد سكوتها على ما يجري من انتهاكاتٍ غير مسبوقة، لحقوق الإنسان، واستقالتها السياسية والأخلاقية وراء مفاوضات عقيمة.

من واجب الأمم المتحدة ومسؤولية أمينها العام أن تعترف، حتى لا تكون متواطئةً مع جرائم الحرب المرتكبة في سورية منذ سنوات، بأن المفاوضات التي أطلقت تحت رعاية الأمم المتحدة، في يونيو/ حزيران 2012، على إثر المبادرة العربية التي تحولت مبادرة عربية دولية، قد أخفقت تماما، وأنها دخلت في رمال متحركة، ولن يخرج منها شيء. بالعكس، تحولت إلى خدعة، وظيفتها الوحيدة التغطية على استمرار الحرب. وعليها أن تعيد الكرة إلى الدول الرئيسية التي رعتها، وتدعوها إلى أن تتحمل مسؤولياتها تجاه ما يجري في سورية من أعمال الإبادة، وما يجري في سجونها من التعذيب حتى الموت، في ما وصفه مسؤولون دوليون ومنظمات إنسانية كبرى بالجحيم السوري وبالمسالخ البشرية.

وينبغي كذلك التوجه إلى حكومات المجتمع الدولي الذي دعم المفاوضات، وراهن عليها، لوقف سفك الدماء ووضع حد للكارثة الإنسانية الأعظم في هذا القرن، أن تعترف أيضا أن تنازلها عن دورها في قيادة هذه المفاوضات، وإعطاءها ما يشبه الوكالة الحصرية لموسكو في إدارتها، بدل أن يسهل عملية التوصل إلى حل، قد أدخلا المفاوضات، ومعها الأزمة السورية، في نفقٍ مظلم، مليء بالفخاخ والمفاجآت غير السارة. فعوض أن تستخدم موسكو نفوذها لدى النظام، لتشجيعه على وضع حد للحرب، كما كان منتظرا منه، أساءت استعمال الثقة التي محضتها إياها المجموعة الدولية، واستخدمت المفاوضات السورية ومصيرها ورقة ابتزازٍ لتحسين موقفها في الصراع مع الغرب، ومن أجل دفعه إلى فتح مفاوضات جدية معها، لا يزال يتجاهل الدعوة إليها، ويرفض الخوض فيها. وكانت النتيجة أن موسكو، بدل أن تمارس الضغط على النظام للتخفيف من تعنته، قدمت له طيرانها ذراعا ضاربة، وأصبحت شريكته الرئيسية وحليفه المعلن في متابعة استراتيجية الأرض المحروقة وتدمير ما تبقى من المدن والمجتمعات المحلية السورية.

وبالمثل، على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الذين جعلوا من الحرب ضد الإرهاب أولوية مطلقة، وتحالفوا من أجل الفوز فيها مع جميع الأطراف الضالعة ضد الشعب السوري، أن تعترف أيضا بأن سياستها الأحادية الجانب، والتي أدت إلى قطع المعونة عن قوى المعارضة السورية، حتى لو نجحت في قصقصة أجنحة المنظمات الإرهابية والقضاء على دويلتها المسخ، التي كانت، على أي حال، صناعة مخابراتية، قد ساهمت هي نفسها في دفع الأمور في اتجاه النفق المظلم نفسه، بمقدار ما استخدمتها أطراف عديدة، بما فيهم حلفاء واشنطن التابعون لقوات الحماية الشعبية، لكن بشكل أكبر من طهران الخامنئية، وموسكو بوتين، قناعا وذريعة لتبرير الحرب ضد فصائل المعارضة السورية، كما عزّزت لديهم، ولدى المليشيات التابعة للأسد، الاقتناع بأن الفرصة أصبحت سانحة لحسم الصراع عسكريا، وعدم الاكتراث بقرارات الأمم المتحدة وسماع دعواتها للتوصل إلى حلول سلمية. لقد صبت سياسة الفصل الخاطئ بين مكافحة الإرهاب والحرب، أو الحروب السورية، الماء كله في طاحونة التحالف الروسي الإيراني، وتبنت مخططاته كما لم يكن يحلم به في أي وقت، وتحولت بسرعة، ومن دون جهد، إلى عامل إضافي، في تقويض عملية مفاوضات التسوية السياسية وقضت عليها.

لا أعتقد أن من الممكن بعد الآن المراهنة على إحياء مفاوضات جنيف للحل السياسي في سورية، ولن يكون مصير جلساتها المقبلة لو عقدت أفضل من مثيلاتها السابقات. والإصرار على الضرب في جثة متفسخة لن يحييها. ودعوات أمين عام الأمم المتحدة المتكرّرة أطراف النزاع إلى تطبيق قرارات الأمم المتحدة، ومنها قرار 2254، لن تزيد إلا في تعميق اليأس في قلوب السوريين الذين فقدوا الثقة بالجميع، ويريدون أفعالا تخرجهم من تحت القنابل الفوسفورية والعنقودية والأسلحة الكيماوية، وترفع عنهم أنقاض المدن والقرى المدمرة. والاستمرار في إطلاق النداءات التي تعكس يأس الأمين العام نفسه، ولا تلقى صدى يضاعف من حالة الإحباط وانعدام الثقة عند السوريين، ويقضي على ما تبقى من رصيد عند المنظمة الدولية ومسؤوليها.

ليس أمام الروس والإيرانيين الذين تورّطوا حتى رأسهم في الحرب مخرج آخر سوى الهرب إلى الأمام، ودفع بشار الأسد إلى المرابطة في موقف الرفض والعنت والمقامرة حتى الانتحار. ولن يتحرك الأميركيون وحدهم، على الرغم من تهديداتهم، للضغط على أحد. فهم واثقون من إخفاق موسكو السياسي، وطامعون في استنزاف طهران حتى الرمق الأخير، لتوفير الحرب القاسية ضدها، وسوف ينتظرون حتى تسقط الثمرة الناضجة في سلتهم، ويحققوا أهدافهم الخاصة في استعادة المبادرة الاستراتيجية الإقليمية التي لا علاقة لها بمصير السوريين، ولا بتوسيع دائرة اختيارات الضحايا وفرص خلاصهم.

لم يبق للسوريين، إلى جانب تصميمهم واستعدادهم غير المحدود للتضحية في سبيل حريتهم وكرامتهم، جدار آخر يمكنهم أن يسندوا ظهرهم إليه سوى الأمم المتحدة. وعلى الرغم مما أصابها على وقع الأزمة السورية من الفشل، وانحسار الصدقية، نتيجة العجز عن تنفيذ قراراتها، لا تزال المصدر الأول للشرعية الدولية، وهي تستطيع دائما، بما تملكه من قوة دبلوماسية ومعنوية، أن تمارس تأثيرا كبيرا على الأحداث، إذا قرّرت أن ترفع صوتها ضد استهتار الحكومات بالمطالب المحقة للشعوب، واستخدمت رصيدها المعنوي الكبير، لفرض احترام القيم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية التي كانت وراء تأسيسها.

لن يستطيع السوريون وحدهم أن يخرجوا من النفق الذي أدخلوا فيه، ولا أن يتوصلوا بأنفسهم إلى تسوية، وهم، أو معظم قواهم المتنازعة، أصبحت رهينة الإرادات الأجنبية. ولن تستطيع الدول المتنازعة أيضا، مهما كانت قوتها، لا منفردة ولا مجتمعة، فرض الحل على السوريين. وليس لديها مصلحة في العمل على التوصل إلى تسوية تنهي النزاع من دون السوريين ومشاركتهم وضغطهم.

أدعو الأمم المتحدة وأمينها العام، باسم الشعب المنكوب في سورية، إلى وضع حد لمهزلة المفاوضات السورية الراهنة، واستبدالها بمفاوضاتٍ تجمع على مائدة واحدة، وحتى التوصل إلى حل، الأطراف الدولية والإقليمية المتنازعة على الأرض السورية، إلى جانب ممثلين لجميع الأطراف السورية، والأعضاء الخمس الدائمين في مجلس الأمن، في إطار مؤتمر دولي، وظيفته الوحيدة التفاوض، بين جميع الأطراف، على نقل السلطة في سورية إلى حكومةٍ تمثيلية، لا طائفية، تضع، تحت إشراف دولي، حداً لأعمال القتل والتهجير والتغيير الديمغرافي، وتضمن حقوق السوريين المهجّرين، وعودتهم الطبيعية إلى وطنهم، وتوقف علمية التقويض الممنهج للدولة السورية، وتفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد، تعيد إلى سورية وشعبها المستباح الأمل بالحياة، وتنهي الحقبة السوداء التي شهدت دمارها ومحنة أبنائها.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى