كما قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في حديث مع جنرالاته، عقب قيام الجيش الروسي بمناورةٍ، ختمها قبل يوم من إعلانه غزو سورية رسميا، ومرابطة قواته في مطار حميميم.
وقال جنرال كبير في جيشه، في حديث تلفزيوني، إن سورية ستحتل مكانة فريدة في رؤية بلاده، تعتبرها “مركزها الجيوسياسي” في المنطقة العربية، بل وفي العالم بأسره، بعد تراجع موقع روسيا الدولي إلى حد الانعدام التام عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وزواله من الوجود. قال بوتين إنه يدخل إلى سورية، لكي يقفز منها، في طورٍ تالٍ، إلى البلدان العربية الأخرى التي كان للاتحاد السوفييتي نفوذ وحضور فيها. ومع أنه أرسل، بالتلازم مع غزو سورية، جنرالات روسا إلى العراق والأردن، للتباحث بشأن إقامة نظام أمن إقليمي مشترك معها، فإن هذا المشروع طوي بعد مسارعة رئيس أركان القوات الأميركية إلى البلدين، وإعلانه من بغداد رفضهما مغادرة التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن للحرب ضد الإرهاب، ودعوته روسيا إلى الانخراط في التحالف، إن كانت تريد حقا المشاركة في هذه الحرب.
ركز بوتين جهوده على ترسيخ وجود روسيا في سورية، وعلى انفرادها بها قوة تقرّر مواقع الآخرين ومصالحهم فيها، تمهيدا لاستئناف سعيه إلى استعادة نفوذ روسيا في البلدان العربية من قاعدةٍ صلبة، يمثلها تعاونه مع جيش إيران البري في الحرب على سورية، ومع تركيا على سياساتٍ تبعدها عن واشنطن في القضية الكردية خصوصا، انطلاقا من اعتراف في الكرملين بأنها مسألة “أمن قومي”، لا تستطيع تركيا التساهل فيها، إن وسعت موسكو الهوة بين أنقرة وواشنطن أحدثت خرقا استراتيجيا في جدار حلف شمال الأطلسي الذي يطوقها، ويشعرها بالتطويق والاختناق.
لم تكتف واشنطن بإرسال رئيس أركان جيوشها إلى بغداد وعمان، لمنعهما من مجاراة موسكو في مشروعها، بل بادرت إلى إرسال عسكرها إلى شمال سورية، حيث تحتل اليوم 28% من مجمل مساحة سورية، من دون أن تخسر جنديا واحدا، بنت فيها، منذ عامين، قاعدة آمنة بمعونة حزب العمال الكردستاني، تتوفر لها جميع المزايا التي كانت قد دفعتها إلى غزو العراق واحتلاله عام 2003، وفي مقدمها موقعها الاستراتيجي الفريد بالنسبة لاستراتيجيتها الدولية التي تعتبرها أفضل تعويض عن العراق، باعتباره موقعا وصفه بريجنسكي، مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي، بأنه “درة العالم الاستراتيجية” التي يجب احتلالها لإحكام سيطرة واشنطن على المجال الأوراسي، بوصفها أول قوة في التاريخ، تمسك به من خارجه.
هذا البديل الاستراتيجي للعراق الذي شرعنت واشنطن غزوه مع الغزو الروسي لسورية يطل على تركيا وإيران، ويشرف على الخليج وشرق المتوسط، فضلا عن الأردن وفلسطين ووسط سورية، فإذا أضفنا إلى ذلك انتشار جيش واشنطن في التنف والأردن، ودور إسرائيل في الصراع السوري، وتذكّرنا أن منطقة الجزيرة تخلو من أي قوى معادية لأميركا، بينما تخوض روسيا معارك يومية ضد السوريين، وتبقي عساكرها عرضةً لأخطار شتى، إذا ما قرّر طرف ما مساعدتهم على مواجهتها بأسلحة حديثة، كما حدث بواسطة الهجوم بالطائرات بلا طيار على قاعدة حميميم مرفأ طرطوس، حيث خسر الروس عتادا بمئات ملايين الدولارات، وعددا من جنودهم وضباطهم، بضربة نفذتها طائراتٌ لا يتجاوز ثمنها عشرة آلاف دولار، كشفت كم هو الوجود الروسي هش سياسيا وعسكريا في سورية، حيث لم تتمكن موسكو بعد من وضع نهايةٍ للحرب الدائرة فيها، المفتوحة في الوقت نفسه، على احتمالاتٍ يصعب عليها التحكم بمساراتها في عالمٍ يضج بصراعات سلبية متفاقمة، ونزاعات عدائية متنوعة الأشكال، تغادر دوله الكبرى العولمة التي كان تفرض عليها الانفتاح بعضها على بعض، والتفاعل بإيجابية، وتنخرط في أجواء تدور حول مصالح قومية ضيقة، يتبناها ساستها بعيدا عن أي تفاهمات، وخارج أية اتفاقيات أو معاهدات سابقة، ويستبدل ما سبق التوافق عليه بنهج يستند على القوة وسيلة لتحقيق الأهداف والمصالح، كما هو ملحوظ منذ أعوام في سياسات روسيا بصورة خاصة، ومنذ وصل دونالد ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة.
مثلما تتعاون روسيا مع إيران وتركيا لتوطيد أقدامها في سورية، وتستقوي بالبلدين على واشنطن، يبدو أنها قررت أيضا التعاون مع بكين والدول الأوروبية العازفة عن تأييد سياسات ترامب، كي تنتزع مواقع دولية، تمكنها من الحصول على تحقيق انتشار عالمي، إلى جانب الانتشار الإقليمي، والحصول على اعتراف البيت الأبيض بها قوة عالمية ثانية في نظام جديد، ينتجه فشل القطب الأميركي الأوحد في حل مشكلات عالم ما بعد السوفييت، من الضروري إدارته بتضافر جهود الدول الكبرى مع الجهود الروسية عالميا وإقليميا، بما يفضي إلى إخراج روسيا من عزلتها أولا، وتخفيض اعتمادها على القوة وسيلة دبلوماسية ثانيا، وإنجاز تفاهم معها بشأن سورية وأوكرانيا وجورجيا ثالثا، وبناء نظام عالمي تحتل واشنطن قمته من دون أن تكون قطبه الوحيد، أو الطرف الذي ينفرد بتسوية مشكلاته، رابعا.
فهل ستنجح موسكو في تحصين موقعها داخل سورية وتوسيع وجودها في المنطقة، بينما تكتفي واشنطن باحتلال الموقع الاستراتيجي الذي طالما قاتلت في العراق لاحتلال ما يماثله، وتترك للروس التوسع في المنطقة وفق الخطة البوتينية، أم أن البيت الأبيض سيستغل انشغال الكرملين بالصراع مع السوريين، ليغرقه في مزيدٍ منه، بينما يتفاهم وزير خارجيته، مايك بومبيو، مع تركيا على صفقة حول الكرد، تمنع التوصل إلى حل خاص بها، لا يكون جزءا من الحل السوري العام، والبعيد، وتدعم حربها الوشيكة ضد حزب العمال الكردستاني في العراق، حيث قرّرت خوض مواجهة حاسمة، كما تقول علامات كثيرة. وماذا ستفعل روسيا غير الإمعان في التخبط المفعم بالإرباك، في حال قرّرت أميركا بدء عمليتها الموعودة لـ “إخراج إيران من المشرق بدءا من سورية”، كما يعد ترامب، بتأييد من بومبيو وجون بولتون، مستشاره الجديد لشؤون الأمن القومي؟
هل سيكون هذا الاحتمال واقعيا خلال الفترة المقبلة التي حدد ترامب بدايتها في أوائل مايو/أيار المقبل، عندما ستقرر أوروبا بطلب منه موقفها الأخير من الاتفاق النووي مع إيران، وتشير دلائل متعددة إلى أنها ستقبل جوانب من وجهات نظره حوله، وموقفه حيال برنامج طهران الصاروخي، وقد تقبل خطته لمواجهة احتلال وتهديد طهران للبلدان المجاورة لها؟ أية قيمة ستبقى لانتصارات الروس الراهنة في سورية، وهل ستكون حقا نهائية وحاسمة، في حال فتحت معركة الوجود الإيراني في سورية التي ستضعهم أمام خياراتٍ تتحدى مخططهم، وقدراتهم، في حال قررت واشنطن تحييدهم، أو الرد على دعمهم إيران، من خلال إمداد السوريين بسلاح حديث، يعيد استخدامه تسعير نيران ثورة يحاولون اليوم إخمادها، في بؤرها المتفرّقة الراهنة، لكن لهيبها سيظل تحت الرماد، ويمكن أن يتأجج من جديد، ويغدو عامّا وشاملا في ظل التطورات التي تتخلق اليوم، ويرجّح أن تتسارع بعد مايو/أيار في ظل الاستعدادات الجارية، لتقرّر ما سيترتب على الصراع السوري من نتائج، وما إذا كان التصور الذي وضعه الروس للاستئثار بالغنيمة الأكبر في سورية هو الذي سيطبق على الأرض، أو أنه سيشهد تعديلات ستأخذه إلى نتائج أكثر تواضعا بكثير مما يريده بوتين؟
توشك واشنطن أن تستغل وضعها السوري القوي، كي ترد على إيران، باعتبارها طرفا إقليميا يحتل بلادنا، ارتبط به نجاح روسيا في تفادي انخراط وحدات كبيرة من جيشها البري في الحرب. هذا الرد إن حدث، بدل معنى ما يجري اليوم على الأرض السورية، وأفرغ انتصارات الروس والإيرانيين من مضمونها، وفتح الباب أمام تصحيح جدي للسياسات الكارثية التي اتبعتها المعارضة والفصائل في السنوات الماضية، على الصعيدين العسكري والسياسي، وأسهمت في إنقاذ النظام، على الرغم من صدق ونزاهة من ضحوا بأنفسهم من أجل ثورةٍ خذلها قادتهم، بجهلهم وأنانيتهم وضمور وعيهم الوطني، وما جبلوا عليه من نزوعٍ إلى التسلط والبهورة. تقترب سورية، بجميع مكوناتها، من لحظة مفصلية، سيتقرّر مصيرها بعدها، لن يكون فيها أي نفع للسوريين، إن استمر وضعهم الحالي على ما هو عليه.
المصدر : العربي الجديد