مقالات

معن البياري – ريم بنّا التي في خواطرنا

كأن السرطان أوقحُ الأمراض، استحقّ نعتَه خبيثا بجدارة. واحدٌ من شواهد كثيرة على صحة هذه الحقيقة المرجّحة أنه، وهو الذي يأنف الناس من نطق اسمه عند الحكي عنه، قَتَلَ المغنية الفلسطينية، ريم بنّا، بعد أن نازلتْه في حربِه معها في جولتيْن، ما أن شُفيت من سرطان الثدي في الأولى، حتى باغتها في ضربِه حبالَها الصوتية، ما اضطرّها، قبل عامين، إلى إعلان توقّفها عن الغناء، بعد “معاناةٍ في النطق غير الواضح والصوت المبحوح”، كما قالت. كانت معركتها مع السرطان وخباثتِه قد وصلت إلى سنتها السادسة.

قبل ذلك، لم تكن تأذن له أن يتوهم انتصارَه عليها. كانت تغنّي، وتلحن، وتسافر، وتقول إن الاحتلال الإسرائيلي غزا فلسطين، والسرطان غزا جسدها، ومثلما تقاوم ذاك تقاوم هذا، وتوضح إن هذه الفكرة ساعدتها كثيرا. كنتَ تراها في غير مقابلةٍ تلفزيونيةٍ تضحك، أو أقله تبتسم، سيما عندما تخبر مشاهديها ومستمعيها أن السرطان مريضٌ بها، ولا يعرف كيف يتخلّص منها. كان هذا كله، ومثله كثير، في أثناء علاجها الصعب بالكيماوي، ومراجعاتها الأطباء في غير بلد، قبل أن يبدأ الطور الأخير في الجولة الثانية، لمّا ذهب المرض الملعون إلى حيث سلاح ريم بنّا، حنجرتها. عندها قالت إن فقدانها صوتَها أصعبُ من إصابتها بالسرطان.

ازدحمت أخبار مكابدة ريم بنّا مرضها الصعب في السنوات الثماني الماضية، فصار التعاطف الواجب معها أوْلى من الانتباه إلى جديد مشاغلها الفنية، وإنْ ظلت الجوائز ومناسبات التكريم والتقدير الفلسطينية والعربية والأجنبية لها لا تُنسينا وجوب أن نعرف غناء هذه الفنانة أكثر، ومواطن الجديد والمختلِف فيه، سيما أنها موزِّعةٌ موسيقيةٌ أيضا، وفي كثيرٍ من ألبوماتها وأغانيها تحضر قوة صوتها، وموسيقى مشحونةٌ، إلى حد ما، بأنفاس أوروبية وآسيوية، مع فضاءٍ فلسطيني ظاهر، فلكلوري وتراثي غالبا، في أغانيها. وإلى الأمرين وغيرهما، هناك الوفاء الخاص للكلمة المغنّاة، فاختيارات ريم بنّا ذهبت أيضا إلى ابن الفارض وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وراشد حسين وغيرهم، فتيسّر في منجز هذه الفنانة، المغنيّة والملحنة، تنويعٌ ليس هيّن القيمة، عدا عن وفرةٍ باديةٍ في هذا كله، دلّت على خيارٍ ذي نزوعٍ ثقافيٍّ خاص انحازت إليه ريم بنّا التي لم تكتف بموهبتها، ولا بصوتها، وإنما تأهلت أكاديميا في دراستها ست سنوات في معهدٍ للموسيقى في موسكو.

ثمّة أرشيفٌ طيبٌ من منوعاتٍ غنائية، باقٍ من ابنة الناصرة في الجليل الفلسطيني، ريم بنّا التي غادرت الدنيا أمس عن 51 عاما، يحتاج إلى درس مختصين، يقعون فيه على صفاته ومزاياه. أما نحن، أهل الصحافة، فالأدْعى أن نسمعها أولا ودائما، ونضيء على ما كانت عليه من إخلاصٍ للفن ووظيفته، ومن إيمانٍ كانت تقيم عليه بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ومناهضة الاستبداد والظلم والقهر.

وكما انشغلت أغنياتُها بقيم الإنسان وحريته وإرادته، فإنها وازت عملها هذا بجهرها الدائم بنصرتها البديعة شعوب الثورات العربية. ومن المخزي للسلطة الحاكمة في مصر أنها امتنعت مرتين، بعد الانقلاب، عن إعطاء ريم بنّا تأشيرتي دخول للمشاركة في أنشطة ومهرجانات فنية، ما عنى منعَها من دخول مصر، ما جعلها تسأل عمّا إذا كان هذا السلوك الشائن يعود إلى “آرائها في كل من تواطأ ضد فلسطين”. وإذا كان شبّيحةٌ عديدون، ومحبّون لنظام القتل الحاكم في دمشق، قد نشطوا أمس في نهش ريم بنّا، فذلك ينطق بانحطاطٍ غزيرٍ يمكث فيه هؤلاء الذين لم تكترث الراحلة بهم يوما، بل انحازت، منذ اليوم الأول للثورة السورية، إلى الحناجر الشجاعة فيها، ثم لم تتوقف عن إعلان مواقفها مع شعب هذه الثورة وناسها.

كانت ريم بنّا ابنة بلد، فلسطينيةً كثيرا، فنانةً ذات إرادة وهمّة عاليتين، ناشطةً غير صموتة. لنسمعها بمحبة، ونلعن خسّة السرطان، ونأنس إلى صوتها، قويا ثم مبحوحا، فقد ظلّ صافيا في صيحته بالحرية في فلسطين، وفي كل مطرح عربي.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى