بصورة متزامنة أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن نيته في سحب قواته من سوريا «في أسرع وقت»، واستقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في قصر الإليزيه، وفداً يمثل «قوات سوريا الديمقراطية»، أواخر شهر آذار/مارس الماضي.
وقال ماكرون، في أعقاب استقباله للوفد، إنه يرغب في القيام بوساطة سياسية بين تركيا و«القوات الديمقراطية» التي ـ بالمصادفة ـ شكلت حزباً سياسياً يمثلها باسم «حزب سوريا المستقبل»! ردة الفعل التركية كانت صاخبة، كالعادة، وتولاها كل من رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه والناطق باسم الرئاسة على التوالي. فقد رفضوا جميعاً، بنبرة خلت من أي دبلوماسية، اقتراح ماكرون، وقالوا إنه يحسن به أن يشاركنا في حربنا على المنظمات الإرهابية، لا أن يعرض وساطة بيننا وبين الإرهابيين، معتبرين بذلك «قوات سوريا الديمقراطية» ككل منظمة إرهابية، لا مكونها الكردي الغالب (وحدات حماية الشعب) فقط، على ما دأب الخطاب الرسمي التركي سابقاً.
ولكن ما الذي دار في اجتماع الإيليزيه حقاً بين الرئيس الفرنسي ووفد «قسد»؟
تعتمد التسريبات التي تلت الاجتماع على أقوال أعضاء في الوفد، وهي شحيحة على أي حال. لكن أهمية الاجتماع تكمن في أنه اعتراف سياسي بقوات سوريا الديمقراطية، إضافة إلى أن توقيت الاجتماع مع إعلان الرئيس الأمريكي نيته سحب القوات الأمريكية من سوريا، يمنحه أهمية من حيث كونه مؤشراً أولياً لاستمرار الدعم الدولي لمناطق شرق الفرات. هل وعد الرئيس الفرنسي الوفد بشيء ملموس؟ يقول رودار خليل، الناطق باسم «قسد» الذي كان ضمن الوفد، إن ماكرون لم يقدم وعوداً بدعم قسد، بل تحدث، بكلام عام، عن نية فرنسا في تعزيز مشاركتها في التحالف الدولي لمحاربة داعش.
ذكرت بعض الأخبار الميدانية أن آليات عسكرية فرنسية وصلت، في الأيام التي تلت الاجتماع، إلى مدينة منبج التي يهدد الرئيس التركي بالتوسع نحوها منذ بعض الوقت، بموازاة تعزيزات أمريكية أيضاً لقواتها في المدينة المذكورة التي تسيطر عليها قوات قسد منذ تحريرها من مقاتلي داعش.
ترى ما الذي دفع الرئيس الفرنسي إلى طرح وساطته بين تركيا وقسد، وهو يعرف مسبقاً، ولا بد، بردة الفعل التركية المحتملة التي لم تخرج عن السياق المألوف للتصريحات التركية منذ بدء اجتياح منطقة عفرين؟
قالت المصادر الأمريكية إن الرئيس ترامب طرح على نظيره الفرنسي، في المكالمة الهاتفية التي سبقت اجتماع الاليزيه مع وفد قسد، ضرورة تعزيز العمل مع تركيا في الملف السوري. فإذا كانت عقدة الخلافات الأمريكية مع تركيا تتمثل في تحالف الأمريكيين مع القوات الكردية تحت مظلة قسد، يكون اقتراح ماكرون بهدف تذليل هذه العقبة بحل وسط يرضي تركيا ولا يبيع مصير القوات الكردية معاً. وهو ما يمكن الوصول إليه ـ في ظن ماكرون ـ بمحادثات بين الطرفين. لكن ردة الفعل التركية ـ غير المفاجئة ـ أطلقت النار على الاقتراح في مهده. لنا أن نستنتج، إذن، أن الاقتراح كان أصلاً لـ«تبرئة الذمة» قبل الخطوة التالية التي قد تتمثل، إذا كان ماكرون، وبالتنسيق مع الأمريكيين، جاداً في دعم قوات سوريا الديمقراطية في مواجهة أي محاولة تركية للتمدد نحو منبج أو المناطق الواقعة شرقي نهر الفرات، في حال قرر ترامب فعلاً سحب قواته.
الواقع أن الانسحاب الأمريكي من سوريا لن يكون «وشيكا» كما قال ترامب، بل يتطلب الأمر استراتيجية انسحاب قد تمتد زمنياً لفترة لا يمكن التنبؤ بها، كما أنه مرتبط بعوامل تقع خارج الإرادة الأمريكية، كخطط الروس والإيرانيين والأتراك والإسرائيليين بشأن ملء الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة، أو عودة داعش إلى النشاط الحربي، كما لاحظنا في الأيام القليلة الماضية قرب دير الزور. إضافة إلى مقاومة متوقعة من وزارة الدفاع الأمريكية لأي قرار ارتجالي بالانسحاب من طرف واحد، أي بدون إجراء أي مقايضات أو ترتيبات بشأنه مع الخصوم والحلفاء.
هل يمكن لفرنسا أن تحل محل الأمريكيين في دعم قوات قسد وضمناً القوات الكردية وممثلها السياسي «حزب الاتحاد الديمقراطي»؟ أم أن المرحلة القادمة ستدفع بالحزب الكردي إلى الخلف، ليتصدر الواجهة «حزب سوريا المستقبل» المؤسس حديثاً، بما يذلل الاعتراض التركي على أي تمثيل سياسي للكرد في مباحثات التسوية؟ هي أسئلة مطروحة للمستقبل، ولن تحددها نوايا هذا الطرف أو ذاك من القوى الفاعلة، بقدر ما تحددها موازين القوى السيالة التي تأتي كل يوم بجديد.
ومن حيث المبدأ، لا تملك فرنسا، بصورة منفردة، إمكانيات الولايات المتحدة لملء الفراغ الذي سينجم من انسحاب أمريكي محتمل. الأقرب إلى المنطق هو أن تسعى فرنسا ماكرون إلى التفاهم مع الروس بشأن التمثيل الكردي في أي مباحثات للتسوية السياسية، وهو ما يريده الروس أيضاً، على أي حال، على رغم اعتراض شريكهم التركي في ثلاثي آستانة.
ما يمكن لماكرون عمله، ميدانياً، هو كما نسب إليه تماماً: تعزيز المشاركة الفرنسية في التحالف الدولي، لكي يكون لفرنسا كلمة بشأن تقرير مستقبل سوريا. ومدخله الوحيد إلى ذلك هو العلاقة مع القوات الكردية.
الواقع أنه بعد تقاسم روسيا وإيران وتركيا لتركة النظام الأسدي، وهو أمر تحقق إلى حد بعيد، بعد سقوط الغوطة الشرقية والمصير المماثل الذي ينتظر الجيوب الأخرى المتبقية، لن يبقى للدول الغربية أي موطئ قدم على الأراضي السورية، إلا المناطق الواقعة حالياً تحت سيطرة قسد مع مظلة التحالف الدولي.
غير أن صراحة ترامب الفجة في مطالبة دول خليجية بتمويل بقاء القوات الأمريكية في سوريا، في اتساق مع شخصيته التجارية، قد تعني أن التلويح بالانسحاب لا يعدو كونه ابتزازاً، ليس فقط لدول قد ترغب ببقاء القوات الأمريكية، بل حتى لروسيا التي سيربكها الانسحاب، لأن من شأنه أن يطيل أمد الحرب ويضع أهدافاً جديدة أمامها، وهي المستعجلة لإيجاد مخرج سياسي ينهي الحرب.
المصدر : القدس العربي