مقالات

سلام الكواكبي – النووي الإيراني بين الإلغاء والتعديل

يعد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بطريقته الاستعراضية، بتفجير مفاجأة بخصوص مصير الاتفاق النووي مع إيران الذي أُقرّ سنة 2015، واتفق من خلاله الإيرانيون مع “المجتمع الدولي”، ممثلاً بالدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي. وبعد مفاوضاتٍ شاقة دامت 12 عاماً، أطلقها ما كان يسمى “الثلاثي الأوروبي”، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، على إيقاف السعي الإيراني إلى امتلاك القنبلة النووية، والحفاظ على البرنامج النووي السلمي، مع وعد برفع العقوبات التي فرضت على الجمهورية الإسلامية طوال سنوات، وارتبطت أساساً بهذا الملف. وينتظر القادة الغربيون، كما الإيرانيون حتماً، هذا الكشف المحتمل عن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، والتخلّص من كل التزاماتها السياسية والاقتصادية والعسكرية.

البرنامج الإيراني الذي بدأ في عهد الشاه سنة 1953، وبدعم أميركي، تطوّر في الحقل السلمي مبدئياً، حيث انضمت إيران إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية سنة 1959، ووقعت معاهدة عدم انتشار السلاح النووي سنة 1968، ولكنها تحفّظت حينها، كما إسرائيل وباكستان، على التصديق على النصوص المتعلقة بتجميد الأبحاث في مجال الاستخدامات العسكرية.

تم إيقاف البرنامج النووي الايراني مع وصول آية الله الخميني إلى السلطة سنة 1979 وقيام الجمهورية الإسلامية. وفي أثناء الحرب مع العراق (1980 ـ 1988)، قام الطيران العراقي بتدمير المفاعلات الصغيرة التي كانت قد أنشئت قبل هذا التاريخ. وقد أعادت طهران تفعيل البرنامج نظرياً، بتوقيع اتفاق مع سورية وليبيا في سنة 1985، باعتباره مشروعا لمواجهة تطور البرنامج النووي الإسرائيلي، كما ادعى أصحاب هذا التعاون. واستمر العمل سرياً على تطوير الطاقة النووية باستخداماتها كافة، حتى أفصح عن السر المعارض الإيراني، علي رضا جعفر زاده، حين كشف عن وجود موقعين سريين: لتخصيب اليورانيوم ولإنتاج الماء الثقيل. ومنذ ذاك التاريخ، استنفر الغرب، مدعوماً من إسرائيل أيضا، في الضغط على إيران لوقف تطوير أبحاثها في هذا المجال.

وفي سنة 2003، أطلقت بريطانيا وألمانيا وفرنسا، فيما عرف آنذاك بمجموعة الثلاثة الأوروبيين، المفاوضات مع الجانب الإيراني، للوصول لاحقاً إلى بعض التراجعات الإيرانية، إلا أن وصول أحمدي نجاد إلى السلطة سنة 2005 أعطى للخط المتشدد مساحة فعل أوسع مما قبل، ليؤكد لاحقاً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أحقية بلاده على المضي في تطوير برنامجها السلمي في مجال الطاقة النووية، ولكنه سرعان ما تراجع في رسالة إلى واشنطن سنة 2006، عندما شعر بجدية الموقف الغربي، وبتشديد العقوبات الاقتصادية التي أثرت بقوة على الوضع الداخلي في إيران، وعرض هذه “لوسائل جديدة لتخفيض التوتر”.

وبعد هذه الرسالة المشجعة، انضمت أميركا إلى المفاوضات، وصارت المجموعة تضم الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إلى جانب إيران.

توصّلت القوى الغربية في 14 يوليو/ تموز 2015 أخيراً إلى إقناع إيران في فيينا بالتوقيع على اتفاقٍ، أهم نقاطه الحد من تطوير البرنامج النووي الإيراني، في حدود لا تقل عن عشر سنوات. كما ينص على رفع تدريجي للعقوبات الدولية على إيران، والتي أثرت بشدة على اقتصاديات هذا البلد. يُضاف إلى ذلك، رفع التجميد القائم منذ الثورة الإيرانية على أصول الدولة في المصارف الغربية، والتي يصل حجمها إلى 150 مليار دولار. كما يُشير الاتفاق، في النهاية، إلى ضرورة تعزيز عمليات المراقبة التي تمارسها الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مختلف المواقع النووية الإيرانية.

بالتأكيد، ينص الاتفاق على منع إيران من تطوير قنبلة ذرية. ولكن لا شيء يمنع قادة طهران من تطوير برامج سرية، لمتابعة مشروعهم الأساسي الساعي إلى إنتاج السلاح النووي. يدفع هذا الشك الإدارة الأميركية الحالية، مدعومة من اليمين المتطرّف الإسرائيلي الحاكم، إلى التهديد بالانسحاب من الاتفاق، لما يرى فيه الطرفان، الأميركي والإسرائيلي، من تراخٍ وتهاونٍ. وينبري المدافعون الأوروبيون عن الاتفاق إلى تقديم منطق المصلحة الاقتصادية الإيرانية في وقف المشروع العسكري في مقابل رفع العقوبات، وإلغاء تجميد الأصول وتطوير اقتصادهم المتدهور، في مقابل القيام بمغامرات نووية غير محمودة العواقب. وبالطبع، يستند هذا التفسير على عقلانية غربية متطورة، ولا يعتمد على فلسفةٍ سياسيةٍ تتعلق بمصالح إيران الحالية والمستقبلية. وككل الأنظمة غير الديمقراطية، لن تأخذ طهران بمصالح الشعب الاقتصادية أولوية في إدارة ملفاتها الخارجية. وتجويع شعبها يُدرّ الأرباح الهائلة على أهم مراكز القوى الحربية والأمنية فيها، ما يجعل لرفع العقوبات انعكاساتٍ سلبيةً على مصالح هذه القوى المسيطرة سياسياً وأمنياً وأرباحها.

الأوروبيون منزعجون جداً، ولو من دون إفصاح، من السعي الأميركي إلى إجهاض الاتفاق. ما لا يعود إلى موقف مبدئي من التعنت الأميركي، بل هو مرتبط أساساً بمصالح اقتصادية، فقد تراكضت كبريات الشركات الغربية لتجد مكاناً في الأسواق الإيرانية الواعدة والمتعطشة. وهذا سيدفع دبلوماسيات هذه الدول إلى لعب دور مهم في محاولة إقناع الطرفين بالحلول الوسط، وبالتراجع عن التعنت. وسيكون على الرئيس دونالد ترامب الذي يقبض ثمن تعنته أيضا استنزافاً مادياً لبعض قوى الإقليم الحذرة من التوسع الإيراني أن يفهم ربما أن ما اعتبره انتصاراً في كوريا الشمالية، نتيجة تهديده ووعيده، لا يمكن أن يُستنسخ مع إيران.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى