مقالات

سميرة المسالمة – الفصائل المسلحة ورسم حدود التقسيم لسورية

تستقر خريطة تقسيم النفوذ في سورية يوما بعد آخر، حيث تتوزع ألوان الأعلام المهيمنة على المناطق بشكل يتساوق مع التفاهمات الدولية التي تحفظ مصالح الدول المتنازعة على سورية، وهو ما يفسر تصريحات الأميركيين والأوروبيين بأنهم “ليسوا في عجلة من أمرهم لطرح مشروع قرار جديد في مجلس الأمن بشأن سورية”، كما يفسر حالة الصمت على استمرار عمليات القصف والتهجير التي يمارسها النظام تحت الوصايتين، الروسية والإيرانية، بعيد الضربات الثلاثية التي شنتها القوات الأميركية والفرنسية والبريطانية، في 14 إبريل/نيسان الماضي، على مراكز بحث وتطوير صناعة الأسلحة الكيميائية في سورية، حيث ترسخ هذه العمليات حدود النفوذ المتفق عليها بين شركاء “أستانة” (روسيا، إيران، تركيا)، والولايات المتحدة الأميركية والتحالف الغربي الذي يساندها في الحرب على “داعش” شمالاً.

وجاء اجتماع باريس الثاني، في 26 إبريل/نيسان المنصرم، وضم ألمانيا لأول مرة إضافة إلى شركاء باريس1 (فرنسا، الولايات المتحدة، وبريطانيا والسعودية والأردن)، ليؤكد أن فتح باب التشاركية للدول المتصارعة على سورية لا يزال هو الخيار الأميركي الذي تريد منه عقد صفقة ثلاثية الأهداف في المنطقة، حيث ترضي من خلالها حليفتها إسرائيل في إبعاد شبح الاشتباك مع إيران على الحدود مع سورية، وتنزع أنياب النظام “الكيميائية”، وتمهد لتسويةٍ سياسيةٍ لا غالب فيها ولا مغلوب، من خلال رؤية تنهي العمل بالنظام السياسي القائم (الرئاسي)، لتكون الفرصة متاحة أمام نظام برلماني، أو نصف رئاسي، يقلم صلاحيات الرئيس الموسعة التي يمنحه إياها دستور سورية 2012 المعمول به حالياً، وتوفر فرص استمرار النفوذ الدولي عبر صيغة حكم لامركزية، يتم من خلالها تقاسم السلطة بين القوى المحلية التابعة للدول المتنفذة عسكريا في سورية، وهذا أيضاً يفسر إصرار فرنسا وبريطانيا على توسيع حضورهما العسكري في سورية.

وتأتي مهمة الفصائل المسلحة التي انخرطت في مسار أستانة الذي أسّسته روسيا، بالتعاون مع إيران وتركيا، وما هو في سياقها من اتفاقيات خفض التصعيد التي وقعتها الفصائل منفردة (جيش الإسلام وفيلق الرحمن) في الغوطة، وفصائل جنوب سورية، برعاية روسية أميركية، في الالتزام بتحقيق استقرار مناطق النفوذ المتفق عليها بين هذه الدول، من خلال ما شهدناه من عمليات استسلام وتسليم وانسحابات إثر عملياتٍ عسكريةٍ خططت لها الدول الثلاث الضامنة لمناطق خفض التصعيد التي نتجت عن اجتماعات أستانة، وهو ما يفسر انتقال النظام في عملية تمشيط ممنهجة من مناطق ريف دمشق ومخيم اليرموك والحجر الأسود إلى حمص، لتحقيق ما يمكن تسميتها “سورية المفيدة”، والتي خطط لها النظام منذ بدء عملياته العسكرية ضد معارضيه، واستيلاء فصائل الجيش الحر على مساحات واسعة من سورية، ثم عاد ليخسرها الجيش الحر على يد الفصائل الأيدولوجية التي أسهم النظام في إطلاق سراح معظم قادتها من سجونه عام 2012، ليعود النظام ويسترد هذه المناطق، عبر عمليات قصف شرسة أدت إلى استسلام الفصائل لتسوياتٍ ضمنت خروجها، وأدت إلى تهجير أهالي المناطق الأصليين.

ومع خروج الفصائل المسلحة، والتسويات التي عقدتها موسكو في الغوطة والقلمون، وضمن ما يخطط له في حمص، تكون خريطة تقسيم النفوذ التي طرحها شركاء أستانة قد اقتربت من وضع اللمسات الأخيرة عليها، حيث يبقى مصير إدلب إشارة الاستفهام الوحيدة التي تفاوض عليها الدول الغربية، لممارسة ضغوط على روسيا لإبعاد إيران، وتحديد مساحة حركتها في دمشق وريفها، وتقليص حصة تركيا مقابل منحها حدوداً آمنة من أي تشكيل لكيان كردي عليها، وهو ما جعل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يعود إلى التلويح مجدداً بأن “قواته قد تخوض حرباً جديدة خارج حدودها”، بعد أن كان قد صرح بأنه لا ضرورة لعمليات عسكرية إضافية، إذا انسحبت وحدات الحماية الشعبية من منبج، حسب الوعود الأميركية.
وبالنظر اليوم إلى الخريطة السورية، حيث تبدو الولايات المتحدة مستقرة في شرق سورية
“العمل المسلح الفصائلي المشتت الهوية، والهدف، والمتعدّد الانتماءات التمويلية، كان له الدور الأكبر في إعاقة استخدامه أداة قوة في فرض التغيير السياسي” وشمالها وجنوبها، ويبسط النظام سيطرته مع شريكتيه روسيا وإيران على العاصمة ومحيطها وريفها، بدءا من الحدود اللبنانية، وصولاً إلى عمق وسط سورية حتى الساحل السوري، بينما تتابع تركيا طريقها لوصل مناطق نفوذ درع الفرات مع “غصن الزيتون” في عفرين، وصولا إلى منبج، متوقعة أن تستقر لها الأمور في إدلب، بعد أن تنهي الفصائل الإسلامية معاركها المشتعلة حالياً مع هيئة تحرير الشام، على الرغم من أن معركة إدلب لاتزال قيد عقد الصفقات الدولية التي تراعي، على ما يبدو، مساحة مغلقة للمعارضة في ظل حكم الفصائل المتشددة إيديولوجياً، في محاولة لإبقاء إدلب كقميص عثمان، يمكنه تحريك عجلات الحرب، متى أرادت هذه الدول إعادة تموضع نفوذها داخل الخريطة السورية.

ومن هنا، كان دور الفصائل الأيديولوجية المسلحة “غير المجدول على قائمة العمل الوطني” في تحقيق مخططات توزيع تقاسم النفوذ عسكريا لهذه الدول، وهو ما أدى إلى أكبر كارثة شهدتها مناطق المعارضة في الغوطة والقلمون وحمص، حيث بنيت هذه المناطق على أساس السيطرة عليها عسكريا وتهجير أهاليها، وتحقيق ما أرادته إيران في “سورية المفيدة” من عملية تغيير ديمغرافي، تقاطعت مصالحها مع المصلحة التركية في عملية واحدة، نتج عنها تهجير أهالي الغوطة وحمص، ليستقروا في مناطق كرد عفرين الذين هجروا بفعل الحرب التركية على وحدات حماية الشعب.

ربما ليس من الإنصاف وضع العمل المسلح ضد النظام في كفة واحدة، على أنه أسهم في هذه الخسائر الفادحة للشعب السوري، لكنه في الآن نفسه علينا أن نقرّ بأن هذا العمل المسلح الفصائلي المشتت الهوية، والهدف، والمتعدّد الانتماءات التمويلية، كان له الدور الأكبر في إعاقة استخدامه أداة قوة في فرض التغيير السياسي على النظام، ما أسهم في زعزعة الثقة بين صفوف الثورة وقيادات المعارضة من جهة، وبين هذه المعارضات وقدرتها على خوض المسار التفاوضي كجهة قادرة على الالتزام بما يمكن التوافق عليه، ولعل الأهم أن هذه “الفصلنة” هي التي سمحت للمتطرفين بالنفاذ إلى ميدان العمل المسلح في سورية، ومن ثم الاستيلاء على مفاصله، وسط ضياع المشروع الوطني الجامع، وقدرة المدافعين عنه في الوقوف منذ البداية في وجه المنظمات الإرهابية التي نمت وترعرعت على حساب الجيش الحر وتبديد إمكاناته، وهو ما سعت إليه الدول المتنافسة على سورية، تحت المسميين حماية النظام أو دعم المعارضة.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى