يتكرّر، منذ سنوات، مصطلح التغيير الديمغرافي في سورية، أي منذ أول تهجير لسكان القصير سنة 2013. ومن متابعة الإعلام الذي يصرّ على تكراره، يبدو أن هناك تصوّرا وإصرارا على تعميم المصطلح. لا يبدو الأمر طبيعياً، أو نتيجة سوء فهم، أو تقليد استخدام مصطلحات، بل يبدو أن خلف تكراره هدفا مقصودا. هناك إصرار من معارضين سوريين على تكراره وكأنه بديهية، ومخطط جاهز، وأمر ينفَّذ بشكل فعلي. وهناك إصرار من قنوات فضائية على إعادة التذكير به، وإحياء الإشارة إليه كلما بدا أنه تراجع نتيجة طغيان أحداث أخرى. وذلك كله من دون تدقيق أو تأمل وتفكير، ويبدو أنه دخل لدى بعضهم في صميم المنظور الطائفي، وبات التعبير عن الممارسة الطائفية التي تبرر طائفية الذات.
في الممارسة الواقعية، هل هناك تغيير ديمغرافي؟ يلمس كل مدقق أن هناك تهجيرا كبيرا لسكان مناطق كثيرة في سورية، هذا مؤكد وواضح، وقد باتت الحافلات الخضر مؤشّرا على ذلك. لكن هل هناك إحلال سكاني مكان المهجَّرين؟ لا يبدو واضحاً على الإطلاق أنه جرى استجلاب سكان جدد، ربما سكنت بعض عوائل المليشيات في بعض المناطق، وهذا ممكن، ولكن لم يظهر أكثر من ذلك إلى الآن.
لهذا يمكن القول إن هناك انسياقاً وراء “إشاعات” من دون تدقيق، أو ربما نتيجة مشاركة فيها. وهذا ما يطرح الهدف من تعميم هذه الفكرة، ويفرض التدقيق، ليس فيما يجري في الواقع، فهو واضح، بل في سبب تعميم الفكرة ذاتها. فهي تحلّ محل مصطلح آخر، هو مصطلح الطرد والتطهير، فما يقوم به النظام عملية طرد وتطهير شاملة، وليس “هندسة ديمغرافية” لسكان سورية. هو يريد التخلّص من كل الشعب الذي صنع الثورة، الثورة التي أرعبته، وبات يسعى إلى أن يشطبها من خلال شطب الشعب ذاته.
هذا جوهر الأمر، وليس هلوسات التغيير الديمغرافي التي تحمل شحنةً طائفيةً سخيفةً، لكنها تغطي على أخطر فعل يقوم به النظام.
من يقف وراء الإعلام يريد ذلك، أي يريد التغطية على جرم تاريخي كبير، يصل إلى حد الإبادة، لكي يُبقي الأمور عند حدود الصراعات الطائفية، “الطبيعية” في سورية، كما عمم منذ بدء الثورة. وبهذا لا يحتاج إلى ضمير أو محاسبة، أو التفات. ما جرى ويجري هو عملية تطهير لبيئة الثورة، هكذا بالتحديد، بغض النظر عن “المنبت الطائفي”، لأن النظام كان معنياً بالثورة، وليس بالطائفة، حيث إنها وحدها التي كادت تقتلعه. ولهذا كان يجب أن يقوم بعملية الطرد والتطهير بعد تدمير المدن والقرى والأحياء والبلدات، وقتل ما استطاع من الشعب.
أدت سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها إلى تهجير أكثر من نصف السكان، منهم خمسة أو ستة ملايين خارج سورية، وتمركز جزء كبير في الشمال. ولقد رّحل مدنا وقرى وأحياء كاملة. بالتالي، لم يطرد النظام آلافا، بل ملايين، ولم يرحّل منطقةً، بل رحّل مناطق واسعة، فهل سيأتي بأعداد مماثلة لكي تسكن سورية؟ هل يمكنه أن يأتي بأي أعداد تؤدي إلى تحقيق التغيير الديمغرافي؟ حتى مع عدد السكان الذي بقي في سورية، وتحت سيطرته؟ ألا يُظهر ذلك سخف المنطق الذي يظلّ يكرّر الحديث عن التغيير الديمغرافي؟
من طرف آخر، ما الأرقام التي يمكن أن يجري استقدامها من لبنان وإيران والعراق وأفغانستان؟ ألف، عشرة، مائة؟ وماذا يغيّر ذلك لكي يجري اعتبار أن سياسة النظام تقوم على التغيير الديمغرافي؟ وهل هناك “فائض سكاني” في إيران أو لبنان أو العراق يحتاج إلى ترحيل؟ أم أن هؤلاء السكان “الشيعة” (كما يفترض العقل الطائفي) ملتصقون بالنظام في إيران إلى حدّ قبول توطينها في مكان آخر؟ لا سكان الضاحية الجنوبية، ولا العراق أو إيران لديها ميل للتوطين، اطمئنوا.
لكن كفوا عن الهوس الطائفي الذي غرقتم فيه.
المصدر : العربي الجديد