إيران.. القدس.. كوريا الشمالية. قرارات كبرى، بشأن هذه المواضيع، سيتخذها الرئيس الأمريكي الذي يقال عنه إنه «لا يمكن توقع ما سيفعله غداً». مع العلم أنها جميعاً مما أعلن الرجل مسبقاً نواياه بشأنها.
ها هو وقد استبق الموعد المتوقع لـ«إصدار حكمه» بشأن الاتفاق النووي مع إيران، فأعلن عن انسحاب الولايات المتحدة منه، مع ما سيتبع ذلك من إعادة العقوبات الاقتصادية القاسية على طهران. ويتسق قرار ترامب مع وعوده الانتخابية، فلم تنفع لثنيه عن الوفاء بها كل محاولات الشركاء الأوروبيين.
يعزو بعض المراقبين إصرار ترامب على موقفه من الاتفاق إلى الصعوبات التي يعانيها في الداخل الأمريكي، أي المساءلات القضائية بشأن حملته الانتخابية المشوبة بالشكوك، والمقاومة التي تبديها في وجه شططه المؤسسة التقليدية للحكم. الأمر الذي يدفعه إلى التركيز على السياسة الخارجية، ليعطي الانطباع بأنه يسعى لصون مصالح الأمن القومي الأمريكي، من جهة أولى، ولإرضاء اللوبي الإسرائيلي الذي يمكن أن يشكل له سنداً مهماً في وجه خصومه، من جهة ثانية.
من هذا المنطلق الأخير، أي إرضاء اللوبي الإسرائيلي، بدأ العد التنازلي لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في الرابع عشر من الشهر الجاري، أي الذكرى السنوية لقيام دولة إسرائيل. هذا القرار الذي من شأنه إثارة الرأي العام العربي والإسلامي، قد يؤدي إلى تداعيات لا يمكن التكهن بمدى خطورتها. لكنه يمنح طهران، بصورة مؤكدة، ورقةً مهمة في صراعها المحتمل مع الولايات المتحدة وإسرائيل. أي أن القرار بشأن نقل السفارة سيخدم إيران وأدواتها الإقليمية المتعيشة على شعارات فلسطين والقدس، ما لم يؤد قرار الانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي إلى استسلام طهران الكامل والفوري أمام واشنطن، بالموافقة على إعادة التفاوض على تعديل الاتفاق القائم. وهذا مستبعد حالياً على الأقل.
فالعقوبات الاقتصادية لن تظهر مفاعيلها على الداخل الإيراني قبل مرور أشهر، إضافة إلى أن مواقف الشركاء الآخرين في الاتفاق النووي سلبية تجاه قرار ترامب، الأمر الذي يمنح طهران هامشاً مديداً، نسبياً، لمواجهة الحملة الأميركية بتجييش الرأي العام العربي والإسلامي، وبخاصة الفلسطينيين الذين سيكونون في فم المدفع الإيراني، ضد «الاستكبار العالمي» على ما درجت البروباغندة الإيرانية «الثورية». كذلك يمنح قرار نقل السفارة حزب الله الإيراني في لبنان الذي احتفل، قبل يومين، بنصر انتخابي ترجمه في الشارع بمسيرة الدراجات النارية وشعار «بيروت شيعية»، مادة دسمة يغطي بها استمرار غرقه في وحول الصراع السوري.
غير أن لإسرائيل رأي آخر. فبعد ساعات فقط على إعلان الرئيس الأمريكي انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، أغارت طائراتها على موقع قرب دمشق (الكسوة)، في إطار إذلالها واستفزازها المتواصلين لإيران، كأنها تستدرج رداً منها يرغم الولايات المتحدة على الانخراط في صراع عسكري مباشر ضد إيران دفاعاً عن إسرائيل. وهي، في الوقت نفسه، استفزازات لحزب الله تستدرج رداً منه يمنح إسرائيل الذريعة المناسبة لضربه في لبنان بالذات الذي أعلن الحزب سيطرته على عاصمته وقراره السياسي بلا منازع.
وفي هذا الشهر أيضاً سيكون اللقاء المرتقب «التاريخي» بين ترامب وديكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون، حيث من المتوقع إطلاق مسار سياسي بين الطرفين، بمساعدة صينية، يهدف إلى إنهاء البرنامج النووي والصاروخي الكوري. يلفت مراقبون النظر إلى أن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران لا يعطي إشارات إيجابية مطمئنة لكوريا الشمالية بشأن مدى التزام الولايات المتحدة بتعهداتها والاتفاقات الدولية التي توقع عليها، ولا يستبعد أن يصبح التوافق الأمريكي ـ الكوري ـ الصيني أكثر صعوبة مما بدا عليه قبل قرار ترامب الأخير. لا نعرف، بعد، الحوافز المطروحة على الديكتاتور الكوري لتليين موقفه. لكن الأخبار المشجعة ما زالت تتواصل، وآخرها زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لبيونغ يانغ لإجراء آخر الترتيبات للقاء القمة، ولتأمين إطلاق سراح ثلاثة أمريكيين محتجزين هناك، كبادرة وحسن نية تسبق القمة المرتقبة.
في شهر آب من العام 2013، قصف نظام الأسد الكيماوي الغوطة الشرقية قرب دمشق بغاز السارين، فقتل نحو 1500 شخص أكثرهم أطفال. يقال إن الرئيس الأمريكي، آنذاك، باراك أوباما الذي كان قد حدد خطه الأحمر الشهير بشأن استخدام الكيميائي، قد أطلق شتيمة تعبر عن إحباطه، حين تبلغ الخبر من مساعديه. لم يكن شعوره هو الصدمة أمام المجزرة المروعة، بل الإحباط من أنه قد يضطر إلى تنفيذ وعيده بحق النظام الكيميائي. فهذا، إذا حدث، من شأنه «تعقيد» إتمام صفقته النووية مع طهران. وعلى أي حال، تمكن أوباما من التهرب من تنفيذ وعيده، مقابل صفقة تسليم الكيماوي المفترضة التي لم تنفذ بصورة تامة أبداً، وعاد النظام إلى استخدامه عشرات المرات بعد ذلك.
فلا عتب، إذن، على السوريين إذا أعلنوا ابتهاجهم بانسحاب ترامب من الاتفاق النووي، بصرف النظر عما يمكن أن تكون تداعيات هذا القرار على السلام العالمي أو الإقليمي أو حتى على سوريا نفسها. فمن كان غارقاً في البحر لن يخشى المطر.
المصدر : القدس العربي