في عصر هيمنة الإيديولوجيا القومية العربية، في الستينيات ومطلع السبعينيات، شاع لدى كتاب ومفكرين قوميين الحديث عن ثلاث قوى اقليمية «متربصة» بصعود الأمة العربية أو تشكل خطراً استراتيجياً عليها، هي إسرائيل وإيران وتركيا. ربما التموضع الجغرافي، أو الإرث التاريخي، هو الذي كان قد أوحى لمحللي ذلك العصر الاستراتيجيين بهذه النظرية، لأن الدول المذكورة هي المجاورة مباشرةً للمجال العربي، وتتمتع اثنتان منها، إيران وتركيا، بمقومات الدولة الراسخة، في حين أن الثالثة الطارئة المصطنعة مدعومة من قوى دولية كبيرة، الولايات المتحدة بخاصة.
أما في الواقع فلم تعمل الدول الثلاث المذكورة أي شيء مما يمكن أن يقرأ هذه القراءة القومية، بما في ذلك إسرائيل التي كانت، عموماً، في موقع دفاعي (باستثناء دورها في العدوان الثلاثي على مصر في 1956)، ولم تفتح شهيتها العدوانية التوسعية إلا سياسات الأنظمة القومية التقدمية في الدول العربية المجاورة، تلك السياسات الشعاراتية غير المتناسبة مع امكاناتها الواقعية.
أما تركيا وإيران فلم تسجل عليهما أي سياسات توسعية أو امبريالية، في ذلك العصر، تجاه جيرانها العرب (بخاصة بعد انفراط عقد حلف بغداد) بل كان ثمة قطيعة سياسية وثقافية مع المجال العربي، من كل من وريثة الإمبراطورية العثمانية التي كانت قد اكتفت بلواء الاسكندرون وانكفأت على نفسها، مع التطلع نحو الاندماج في المجال الأوروبي؛ ووريثة الإمبراطورية الساسانية التي اكتفت بثلاث جزر في الخليج العربي، مع المناكفة على اسم الخليج، واعتمد نظامها الشاهنشاهي على الضمانة الأمريكية للبقاء في الحكم.
بنظرة من مراقب اليوم، نلاحظ كم انقلبت هذه الصورة، منذ أواخر السبعينيات وصولاً إلى العقد الثاني من الألفية الجديدة، انقلاباً ما كان لأحد أن يتخيل حدوثه بهذا الحجم. كان أبرز معلم في بداية الانعطاف هو الثورة الإسلامية في إيران التي كانت، بدورها، تتويجاً لصعود الإسلام السياسي، في المنطقة، في أعقاب هزيمة النظام القومي في 1967. لذلك فقد بدا طبيعياً أن يواجه الثورة الإسلامية المذكورة أحد أبرز الأنظمة القومية، نظام البعث العراقي، في حرب امتدت 8 سنوات وأنهكت البلدين، في حين فضل النظام البعثي الآخر، في سوريا حافظ الأسد، التحالف مع إيران الإسلامية ضد شقيقه البعثي في العراق، ربما بدوافع مذهبية، سيجني وريثه ثماره القاتلة بعد 2011.
وما أن تنفست إيران الصعداء، بعد نهاية الحرب، حتى أخذت تعد العدة لهجوم مضاد في صيغة مذهبية لتصدير «الثورة»، من خلال اهتمامها بالأقليات الشيعية في البلدان العربية، في مسعى محموم لاختراق مجتمعات تلك البلدان، بما يؤدي إلى إضعافها من جهة واستعادة الطموحات الإمبراطورية لإيران، من جهة ثانية، في عملية واحدة متكاملة. وقد منحها الاستثمار في القضية الفلسطينية أقوى موطئ قدم اقليمي لها في لبنان، وجنوبه المتاخم لإسرائيل بصورة خاصة. الخلاصة أن «إسلامية» النظام الذي خلف نظام الشاه العلماني، هي التي أعادت لإيران أحلام التوسع الامبراطوري، وقد حققت، بفضل عوامل كثيرة تقع خارج هذا التعليق السريع، إنجازات كبيرة على طريق تحقيقها، فباتت أربع عواصم عربية تدور في فلكها، على ما صرح بعض الناطقين باسم النظام.
على رغم المسار المختلف الذي اتخذته تركيا، فإن العامل المشترك الذي تتقاطع فيه مع الحالة الإيرانية الموصوفة أعلاه، إنما هو الإسلام السياسي. فبعد مسار معقد، تخللته انتخابات وانقلابات عسكرية وتغيرات عميقة في المجتمع التركي، وصل أحد ممثلي الإسلام السياسي إلى السلطة، في العام 2002، وأدار وجه تركيا مجدداً نحو عمقها الحضاري العربي ـ الإسلامي، بعد قطيعة أتاتوركية مديدة. ولعبت النهضة الاقتصادية التي شهدتها البلاد، في عهد الإسلاميين، دوراً كبيراً في بروز تيار «العثمانية الجديدة» ذي الأطماع الإمبراطورية «الناعمة»، بخلاف خشونة النزعة الإمبراطورية الإيرانية.
غير أن اندلاع ثورات الربيع العربي، ووصولها إلى الحدود الجنوبية، أي سوريا، دفع القيادة التركية إلى الانتقال الحاد من توسل القوة الناعمة في نزوعها الامبريالي، إلى القوة الخشنة والتدخل العسكري، غير المباشر أولاً ثم المباشر، في سوريا، بصورة متوازية مع تحولات الصراع السوري من سلمي إلى عسكري إلى إسلامي جهادي.
وكما وجدت النزعة الإمبراطورية الإيرانية أدوات محلية من داخل المجتمعات العربية المستهدفة لخدمة أطماعها التوسعية، وجدت تركيا أدواتها أيضاً، في التيارين الإخواني والسلفي، وإن كانت أقل تماسكاً وتجذراً في المجتمع السوري.
وفي الحالتين، الإيرانية والتركية، وقبلها الإسرائيلية، إن ما فتح الشهية التوسعية لتلك الدول باتجاه المجال العربي، إنما هو الخراب المديد الذي حكم البلدان العربية باسم العروبة أو «التقدمية» أو كليهما معاً. وإذا كان مفهوماً صعود تلك الأنظمة، وفق ديناميات اجتماعية محلية، في إطار الحرب الباردة، فإن استمرارها في الحكم، بعد حرب العام 1967 التي أنهت «مدة صلاحيتها» كأي طعام معلب، هو ما حول تحليلات المفكرين القوميين بصدد «ثالوث القوى الإقليمية المتربصة» من كلام في الهواء إلى واقع على الأرض.
الخلاصة أن المجتمعات العربية لم تكد تفيق من الضربة الإسرائيلية على الرأس، في حرب حزيران 1967، حتى انتقلت إلى صعود الإسلام السياسي، مع استمرار أنظمة الهزيمة في الحكم، في غياب أي مشروع مستقبلي يمكن التعويل عليه للخروج من الهاوية التي واصل الإسلاميون تعميقها بدلاً من محاولة ردمها.
اليوم وصل الإسلام السياسي، بدوره، إلى أقصى ما يمكنه الوصول إليه، ليس فقط في المجال العربي الذي خرّبه إلى النهاية، بل كذلك في كل من إيران وتركيا. وإذا كانت آليات النظام الديمقراطي في تركيا، على علاته الكثيرة، كفيلة بترميم آثار النزعة التوسعية «العثمانية الجديدة» في السنوات الأخيرة، فنظام ولاية الفقيه يواجه اليوم أخطر حملة أمريكية لتحجيم دوره الإقليمي وربما وصولاً لإسقاط النظام، من غير توفر آليات مماثلة.
ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي من خطة الاحتواء ينذر بنهاية أحلام التوسعية الإيرانية، بعد «فترة سماح» مديدة وفرها الأمريكيون منذ احتلال العراق (2003)، مروراً بالاتفاق النووي في عهد باراك أوباما الذهبي بالنسبة لإيران. فإذا اختارت القيادة الإيرانية طريق العقل، يمكنها اختيار الانسحاب الطوعي بدلاً من إرغامها على ذلك. خاصة وأن ما تسرب من لقاء الرئيس بوتين بتابعه بشار الكيماوي في سوتشي، يوحي بانصياع الأخير لمطلب سيده في الكرملين بصدد إنهاء الوجود الإيراني في سوريا. كما أطلق صعود نجم تيار مقتدى الصدر في الانتخابات العراقية الأخيرة نذراً مماثلة.
المصدر : القدس العربي