يصح القول إن لحظة حرجة تزداد اقتراباً من النظام السوري للاختيار بين حليفين مكّناه من الصمود، طرداً مع تسارع انكشاف التباينات بين المشروعين الإيراني والروسي في رسم المستقبل السوري وحصص النفوذ في المشرق العربي، تجلت في الآونة الأخيرة بتصريحات حادة لقيادة الكرملين تطالب بانسحاب كل القوات الأجنبية من سوريا، ردت عليها حكومة طهران برفض صريح وبعبارة تحدٍ بأن لا أحد يمكنه إزاحة وجودها العسكري من المشهد السوري.
ثمة من لا يعطي قيمة لهذه التباينات وما يرافقها من افتراق في المواقف، عادّاً أن ما تسمى خلافات بين طهران وموسكو هي مجرد مناورات، أو شكل من أشكال توزيع الأدوار بينهما، لا يصح البناء والتعويل عليها أمام قوة المصلحة المشتركة للطرفين في مواجهة الغرب وتربصه المزمن بهما، وأمام إدراكهما المخاطر الكبيرة الناجمة عن دفع خلافاتهما السياسية إلى آخر الشوط.
وفي المقابل، هناك دلائل ومؤشرات تضعف هذه الفكرة التآمرية وتؤكد جدية تلك التباينات وعمقها، التي إنْ لم تظهر في الماضي، فالسبب هو اضطرار الطرفين إلى طمسها لضمان أفضل أداء في مواجهة القوى المناهضة لهما، لكنها بدأت تتكشف وتتسع في الآونة الأخيرة مع انحسار العمليات الحربية في سوريا، وتنامي تنافس الطرفين على جني ثمار التقدم العسكري الذي أحرز ضد جماعات المعارضة.
بداية؛ يتفارق المشروعان الروسي والإيراني في أن الأخير يستند إلى البعد المذهبي في تمدده وفرض هيمنته، تحدوه رغبة مزمنة في إزاحة الكتلة الإسلامية السنّية من الوجود أو على الأقل إضعاف وزنها ودورها إلى أبعد الحدود، بينما تميل موسكو إلى أخذ مصالح هذه الكتلة في الاعتبار توخياً للاستقرار وديمومة نفوذها في سوريا والمشرق العربي؛ الأمر الذي تجلى بفتح خطوط مبكرة مع قوى معارضة ذات وجه إسلامي سنّي، وتهيئة الشروط لإنجاح اجتماعات آستانة، ومناطق خفض التصعيد، وقرارات وقف إطلاق النار المتكررة، وما تلاها من مفاوضات، خصوصاً في أرياف دمشق وحمص، لنقل المعارضة الإسلاموية المسلحة إلى الشمال، رافق ذلك انفتاحها على الوجود الإقليمي السني؛ إنْ بفرض حكومة أنقرة بوصفها طرفاً فاعلاً في اجتماعات آستانة وأخذ مصالحها الأمنية في الاعتبار وإطلاق يدها في عفرين والشمال السوري، وإنْ بحرصها على إرضاء المجموعة العربية المتضررة من التمدد المذهبي الإيراني والتي يهمها محاصرة سياسة طهران التدخلية وتحجيم دورها المخرب في سوريا والمنطقة، فكيف الحال حين لا يخفى على موسكو الدور الخفي لإيران في تنمية الفكر الجهادي الإسلاموي وتغذية بعض أطرافه وعملياته، كي تبرر وجودها على أنها طرف يواجه هذا الإرهاب.
ومن المفارقات، أن التدخل العسكري الروسي الذي كان له الدور الحاسم منذ معركة حلب، ربما اكتفى بما أحدثه من تحولات في توازنات القوى لتمرير رؤيته السياسية للمستقبل السوري، رافضاً دعوات دمشق وطهران الإقصائية للاستمرار في الحسم العسكري حتى سحق الخصم بصورة نهائية، ومكرراً إيعازاته بوقف عدة محاولات لتقدم الميليشيات السورية والإيرانية في ريف إدلب، وتحذيراته من الاندفاعات السلطوية المعززة برغبة إيرانية في خوض معارك على الجبهة الجنوبية لاسترداد مدينة درعا وما حولها.
ونضيف أيضاً أنه ليس من مصلحة موسكو الذهاب بعيداً في تغطية سياسة طهران التوسعية، وتالياً مواجهة الغرب الذي بدأ يتحسس وإنْ متأخرا خطورة هذه السياسة في المنطقة، كما ليس من مصلحتها جعل سوريا ورقة بيد إيران في معاركها لتغيير الاستاتيكو القائم في المشرق العربي وللرد على اشتراطات البيت الأبيض القاسية بعد انسحابه من الاتفاق النووي، مما يفسر تفهمها للمعلومات التي كشفتها تل أبيب عن مشروع عسكري سري لطهران يهدد استقرار المنطقة، وتالياً صمتها وحيادها تجاه الغارات المتكررة للطيران الإسرائيلي ضد مواقع لـ«الحرس الثوري» و«حزب الله» في سوريا.
وفي المقابل، لا يلمس المرء في تعاطي النظام السوري مع مروحة التباينات بين روسيا وإيران، حالة من الرضا والانسجام، ربما لأن انكشافها يحرجه ويفرض عليه مواقف مؤلمة كان يرغب في تجنبها وهو النظام الضعيف الذي لا يقوى على اتخاذ قرار منفرد دون ضمان دعم خارجي وازن، وربما لأن هناك مصالح واجتهادات متباينة بين صفوفه تشجع الميل نحو أحد الطرفين.
والحال أن ثمة في السلطة من يعتقد أن الدور العسكري الروسي قد استنفد ويحبذ وضع البيض كله في السلة الإيرانية، متوسلاً مرة بعض مظاهر الازدراء والإذلال الروسي للجماعة الحاكمة، ومرة ثانية حقيقة أن إيران كانت الأكثر تضحية وحرصاً على دعم النظام وتمكينه، وأنها الضامن الأمين والمجرب لحمايته من أي تغيير مهما يكن، ومن أي محاسبة عما ارتكبه بحق البلاد والعباد، ومرة ثالثة لأنه يرى في النفوذ الإيراني بهيئته المذهبية دعماً لما كرسه من ترتيبات طائفية لامتلاك الدولة وإخضاع المجتمع. بينما يعتقد آخرون أن خسارة النظام ستكون فادحة إن تخلى عن الغطاء والدور الروسيين، وقد ثبت بالتجربة أن إيران عاجزة وحدها عن حمايته وتمكينه، وأيضاً عن لعب دور ناجع في إعادة الإعمار وهي الغارقة في أزماتها الاقتصادية، بينما يغدو تعزيز الدور الروسي والتحرر من النفوذ الإيراني، خياراً مجدياً لتلطيف موقف الغرب وفتح نافذة حقيقية ومطمئنة لإعادة إعمار البلاد… هذا عدا الخشية من أن تفضي عنجهية التمدد الإيراني في سوريا إلى رد فعل عسكري إسرائيلي قد يطيح بالنظام ذاته، خصوصاً أن أهل الحكم يدركون جيداً أهمية رضا تل أبيب في دعمهم الخفي وضمان استمرارهم.
«جنت على نفسها براقش» مثل يدرجه البعض لوصف حال النظام السوري الذي رفض المعالجة السياسية في إطارها الوطني واستجر مختلف أشكال العنف والدعم الخارجي لسحق حراك الناس ومطالبهم المشروعة في الحرية والكرامة، فبات لعبة في أيادي الآخرين، مجبراً على الالتحاق بإيران أو روسيا كي يضمن سلامته، لكن ملحِقاً أفدح الأضرار بمصالح الشعب ومستقبل الوطن.يصح القول إن لحظة حرجة تزداد اقتراباً من النظام السوري للاختيار بين حليفين مكّناه من الصمود، طرداً مع تسارع انكشاف التباينات بين المشروعين الإيراني والروسي في رسم المستقبل السوري وحصص النفوذ في المشرق العربي، تجلت في الآونة الأخيرة بتصريحات حادة لقيادة الكرملين تطالب بانسحاب كل القوات الأجنبية من سوريا، ردت عليها حكومة طهران برفض صريح وبعبارة تحدٍ بأن لا أحد يمكنه إزاحة وجودها العسكري من المشهد السوري.
ثمة من لا يعطي قيمة لهذه التباينات وما يرافقها من افتراق في المواقف، عادّاً أن ما تسمى خلافات بين طهران وموسكو هي مجرد مناورات، أو شكل من أشكال توزيع الأدوار بينهما، لا يصح البناء والتعويل عليها أمام قوة المصلحة المشتركة للطرفين في مواجهة الغرب وتربصه المزمن بهما، وأمام إدراكهما المخاطر الكبيرة الناجمة عن دفع خلافاتهما السياسية إلى آخر الشوط.
وفي المقابل، هناك دلائل ومؤشرات تضعف هذه الفكرة التآمرية وتؤكد جدية تلك التباينات وعمقها، التي إنْ لم تظهر في الماضي، فالسبب هو اضطرار الطرفين إلى طمسها لضمان أفضل أداء في مواجهة القوى المناهضة لهما، لكنها بدأت تتكشف وتتسع في الآونة الأخيرة مع انحسار العمليات الحربية في سوريا، وتنامي تنافس الطرفين على جني ثمار التقدم العسكري الذي أحرز ضد جماعات المعارضة.
بداية؛ يتفارق المشروعان الروسي والإيراني في أن الأخير يستند إلى البعد المذهبي في تمدده وفرض هيمنته، تحدوه رغبة مزمنة في إزاحة الكتلة الإسلامية السنّية من الوجود أو على الأقل إضعاف وزنها ودورها إلى أبعد الحدود، بينما تميل موسكو إلى أخذ مصالح هذه الكتلة في الاعتبار توخياً للاستقرار وديمومة نفوذها في سوريا والمشرق العربي؛ الأمر الذي تجلى بفتح خطوط مبكرة مع قوى معارضة ذات وجه إسلامي سنّي، وتهيئة الشروط لإنجاح اجتماعات آستانة، ومناطق خفض التصعيد، وقرارات وقف إطلاق النار المتكررة، وما تلاها من مفاوضات، خصوصاً في أرياف دمشق وحمص، لنقل المعارضة الإسلاموية المسلحة إلى الشمال، رافق ذلك انفتاحها على الوجود الإقليمي السني؛ إنْ بفرض حكومة أنقرة بوصفها طرفاً فاعلاً في اجتماعات آستانة وأخذ مصالحها الأمنية في الاعتبار وإطلاق يدها في عفرين والشمال السوري، وإنْ بحرصها على إرضاء المجموعة العربية المتضررة من التمدد المذهبي الإيراني والتي يهمها محاصرة سياسة طهران التدخلية وتحجيم دورها المخرب في سوريا والمنطقة، فكيف الحال حين لا يخفى على موسكو الدور الخفي لإيران في تنمية الفكر الجهادي الإسلاموي وتغذية بعض أطرافه وعملياته، كي تبرر وجودها على أنها طرف يواجه هذا الإرهاب.
ومن المفارقات، أن التدخل العسكري الروسي الذي كان له الدور الحاسم منذ معركة حلب، ربما اكتفى بما أحدثه من تحولات في توازنات القوى لتمرير رؤيته السياسية للمستقبل السوري، رافضاً دعوات دمشق وطهران الإقصائية للاستمرار في الحسم العسكري حتى سحق الخصم بصورة نهائية، ومكرراً إيعازاته بوقف عدة محاولات لتقدم الميليشيات السورية والإيرانية في ريف إدلب، وتحذيراته من الاندفاعات السلطوية المعززة برغبة إيرانية في خوض معارك على الجبهة الجنوبية لاسترداد مدينة درعا وما حولها.
ونضيف أيضاً أنه ليس من مصلحة موسكو الذهاب بعيداً في تغطية سياسة طهران التوسعية، وتالياً مواجهة الغرب الذي بدأ يتحسس وإنْ متأخرا خطورة هذه السياسة في المنطقة، كما ليس من مصلحتها جعل سوريا ورقة بيد إيران في معاركها لتغيير الاستاتيكو القائم في المشرق العربي وللرد على اشتراطات البيت الأبيض القاسية بعد انسحابه من الاتفاق النووي، مما يفسر تفهمها للمعلومات التي كشفتها تل أبيب عن مشروع عسكري سري لطهران يهدد استقرار المنطقة، وتالياً صمتها وحيادها تجاه الغارات المتكررة للطيران الإسرائيلي ضد مواقع لـ«الحرس الثوري» و«حزب الله» في سوريا.
وفي المقابل، لا يلمس المرء في تعاطي النظام السوري مع مروحة التباينات بين روسيا وإيران، حالة من الرضا والانسجام، ربما لأن انكشافها يحرجه ويفرض عليه مواقف مؤلمة كان يرغب في تجنبها وهو النظام الضعيف الذي لا يقوى على اتخاذ قرار منفرد دون ضمان دعم خارجي وازن، وربما لأن هناك مصالح واجتهادات متباينة بين صفوفه تشجع الميل نحو أحد الطرفين.
والحال أن ثمة في السلطة من يعتقد أن الدور العسكري الروسي قد استنفد ويحبذ وضع البيض كله في السلة الإيرانية، متوسلاً مرة بعض مظاهر الازدراء والإذلال الروسي للجماعة الحاكمة، ومرة ثانية حقيقة أن إيران كانت الأكثر تضحية وحرصاً على دعم النظام وتمكينه، وأنها الضامن الأمين والمجرب لحمايته من أي تغيير مهما يكن، ومن أي محاسبة عما ارتكبه بحق البلاد والعباد، ومرة ثالثة لأنه يرى في النفوذ الإيراني بهيئته المذهبية دعماً لما كرسه من ترتيبات طائفية لامتلاك الدولة وإخضاع المجتمع. بينما يعتقد آخرون أن خسارة النظام ستكون فادحة إن تخلى عن الغطاء والدور الروسيين، وقد ثبت بالتجربة أن إيران عاجزة وحدها عن حمايته وتمكينه، وأيضاً عن لعب دور ناجع في إعادة الإعمار وهي الغارقة في أزماتها الاقتصادية، بينما يغدو تعزيز الدور الروسي والتحرر من النفوذ الإيراني، خياراً مجدياً لتلطيف موقف الغرب وفتح نافذة حقيقية ومطمئنة لإعادة إعمار البلاد… هذا عدا الخشية من أن تفضي عنجهية التمدد الإيراني في سوريا إلى رد فعل عسكري إسرائيلي قد يطيح بالنظام ذاته، خصوصاً أن أهل الحكم يدركون جيداً أهمية رضا تل أبيب في دعمهم الخفي وضمان استمرارهم.
«جنت على نفسها براقش» مثل يدرجه البعض لوصف حال النظام السوري الذي رفض المعالجة السياسية في إطارها الوطني واستجر مختلف أشكال العنف والدعم الخارجي لسحق حراك الناس ومطالبهم المشروعة في الحرية والكرامة، فبات لعبة في أيادي الآخرين، مجبراً على الالتحاق بإيران أو روسيا كي يضمن سلامته، لكن ملحِقاً أفدح الأضرار بمصالح الشعب ومستقبل الوطن.
المصدر : الشرق الأوسط